من عصر التنوير إلى «عصر التزوير»!
بعد تقدم الثورة الصناعية في أوروبا بدأت الغزوات الاستعمارية الأوروبية مستهدفة قارتي إفريقيا وآسيا. مترافقا مع تلك الغزوات، عرفت أوروبا ما أطلق عليه (عصر التنوير)، فكانت الحملات الاستعمارية توضع تحت عناوين مثل (نشر الحضارة والمدنية)، والهدف المعلن (تنوير) شعوب القارتين، بينما الحقيقة كانت تستهدف البحث عن مناطق النفوذ والسيطرة، ومن ثم نهب الثروات الوطنية لتلك الشعوب، مع ما يستلزم ذلك من إخضاع لها واستعباد يسمحان للاستعماريين بإنجاز مهمتهم (التنويرية والحضارية) المزعومة والتي لم تعد خافية على أحد. الثورة الصناعية ورسالة التنوير التي حملتها الدول الاستعمارية الأوروبية أعطت العالم حربين عالميتين وعشرات الملايين من الضحايا، وانتهت إلى وضع قواعد محددة لاقتسام العالم وثرواته ومناطق نفوذه خلال ما عرف بحقبة (الحرب الباردة) التي انتهت بتزعم الولايات المتحدة الأمريكية للدول الرأسمالية في مرحلة الإمبريالية. في المرحلة الجديدة ومع ثورة الاتصالات وتزعم الولايات المتحدة للدول الإمبريالية، انتقلنا من (عصر التنوير) إلى (عصر التزوير)، وتحول عنوان المهمة من (نشر الحضارة والمدنية) إلى (نشر الدمقراطية والحرية وحقوق الإنسان)! لكن المهمة الحقيقية لم تتغير، ولم تتغير طريق الوصول حيث ظلت تختصر في إخضاع واستعباد شعوبنا العربية على وجه الخصوص، وظل هدفها السيطرة ونهب ثرواتنا الطبيعية وأولها البترول، عصب وروح الصناعة والتقدم التكنولوجي اللذين بزت فيهما الولايات المتحدة قريناتها الأوروبيات. الغزوة الامبريالية الأمريكية للعراق جاءت في هذا السياق التاريخي، فكان هدفها السيطرة على أكبر احتياطي للبترول كوسيلة للسيطرة على العالم، مضافا إليها حماية وضمان أمن وتفوق إسرائيل على مجموع الدول العربية بوصفه أداة تهديد في يدها لأنظمة المنطقة وأمن وتقدم شعوبها. فشل هذه الغزوة في تأمين الاستقرار لقوات الاحتلال الأمريكي ومشروعها، وتكاليفها الباهظة جعل أهدافها متعذرة التحقيق، بعد أكثر من خمس سنوات من الاحتلال، وفرض على المحتلين التفكير بما يجب فعله لضمان تحقيق تلك الأهداف فكانت (اتفاقية التعاون الأمني) بين حكومة نوري المالكي والولايات المتحدة التي يجري الجدل حولها، والتي يفترض أن يتم التوقيع عليها لتصبح سارية المفعول قبل نهاية شهر تموز المقبل، علما أن التفويض الذي قرره مجلس الأمن الدولي للقوات الأمريكية المحتلة ينتهي نهاية العام الجاري. إن ما تسرب من بنود الاتفاقية المذكورة يطرح سؤالا أوليا قبل الدخول في أية تفاصيل بشأنها وهو: هل يجري الحديث عن (اتفاقية) للتعاون الأمني بين دولتين، أم عن صك انتداب دولة كبرى على دولة أخرى خاضعة لاحتلالها بفعل الغزو والقوة العسكرية؟ وإذا كان من البدهيات أن التعاون بين طرفين هو قرار اختياري، سيادي بالنسبة لأية دولة ذات سيادة، يقرره الطرفان بملء إرادتهما الحرة دون ضغط، ولا يفرضه طرف قوي على طرف آخر ضعيف، خاضع لاحتلال الطرف الآخر، فإن الاتفاقية الأمريكية - العراقية التي يدور الحديث عنها تصبح من النوع المفروض وهو ما يجعل تعبير (التعاون) غير وارد بشأنها. وبسهولة يمكن التأكد من هذه المسألة بإلقاء نظرة سريعة على ما تسرب من بنود الاتفاقية، ولعل ما خفي منها أسوأ وأخطر. فالاتفاقية- المعاهدة تقيم حلفا أمنيا طويل الأمد بين بغداد وواشنطن يضفي الشرعية على الوجود العسكري الأمريكي عبر إقامة عدد من القواعد العسكرية الثابتة للقوات الأمريكية على الأراضي العراقية. وهي تسمح للولايات المتحدة بإدخال قوات عسكرية حسبما تشاء ووقتما تشاء ومن دون الرجوع أو التنسيق مع الجانب العراقي أو حتى إشعاره بذلك! والاتفاقية غير محددة بمدى زمني بل يخضع ذلك للظروف الدولية وإرادة الولايات المتحدة التي تستطيع أن تنهي مفعولها من طرف واحد وحسب مقتضيات الأمن القومي الأمريكي! مع هذه البنود، هل يمكن لأحد أن يتحدث عن (تعاون) أم هو صك للتبعية من دون شروط؟ الذين يدافعون عن الاتفاقية من العراقيين هم أطراف ما تسمى (العملية السياسية) التي رسمت خطوطها قوات الاحتلال الأمريكية وإدارة بوش، وهم يدافعون عن مصالحهم التي أصبحت مرتبطة بالوجود الأمريكي ومصالحه في العراق. لذلك هم، كأصدقائهم الأمريكيين، يزورون الحقائق المتصلة بهذه الاتفاقية كما سبق لهم جميعا أن زوروا ما تحقق في العراق منذ اليوم الأول للغزوة الامبريالية الأمريكية. فرئيس الحكومة نوري المالكي يحول القضية كلها إلى موضوع للخروج من تحت (الفصل السابع) ليمتلك العراق حريته وسيادته على حد زعمه. ولكن هل تبقى سيادة بعد هذه الاتفاقية؟ أما إيران وأنصارها العراقيون، فهم يبدون وكأنهم لا يوافقون على الاتفاقية لأنها تقلل من فرص هيمنتها على العراق، ويخشون في الوقت نفسه أن يظل العراق منصة للهجوم عليها في أي وقت تراه إدارة أمريكية مناسبا. إن الجدل الدائر حول الاتفاقية المذكورة جدل مزور في أكثر من نصفه، حيث أن الاتفاقية ستوقع في الوقت المحدد، وأية (تعديلات) يمكن أن تدخل عليها لن تكون جوهرية ولن تغير شيئا مما تريده الإدارة الأمريكية. أما النصف الثاني، أو أقل منه، فهو مزور أيضا لأنه يدور خارج الإطار الصحيح. إن ما يريده الشعب العراقي هو ما يعيد إليه حريته وسيادته الحقيقيتين، وما يحفظ له وحدة الشعب والأرض، ويفتح أمامه فرص التقدم ويتيح له إعادة بناء ما دمرته الغزوة البربرية، ولن يكون ذلك دون إنهاء الاحتلال الأمريكي من دون قيد أو شرط أو معاهدات مذلة. عوني صادق السبت 21/6/2008 |