كان أكثر تواضعًا مِنّا .. والتواضعُ مع عزةِ النفسِ، صفتان تلازمان الإنسانَ الذي أنعم الله عليه بنعمة النقائض.. العنيد المرن الذي لا يخشى في الحق لومة لائم.
كان صاحبُ مبدأٍ ليِّنًا في غير ضعف، وشديدًا في غير عُنف. والذي يعرفه جيدا قدّر طاقتَه الكامنةِ في كونه مربيًا لا مجردَ مُعلّم.. قدّر استقامتَهُ وانحيازَه الطبقي نحو الفقراء وتوجهه نحو العقل، وكرهه للنقل. أحبَّ عائلتَه الصغيرة والكبيرة وأحب طائفته.. لكن دون تعصّب أو مواربة أو محاباة... كَبُر قلبُه واتسع حُبّهُ لبني وطنه وبني قومه وبني جِلدتِهِ وإنسانيته.
وكان يصر دائمًا على أن يقول "للأعور أعورًا بعينه وللقاتل قاتلا في حضرته وللباغي باغيا على مسمعه" وان "التلم الأعوج من الثور الكبير"، وآمن حتى النخاع أن في الإشتراكية خلاصٌ للبشرية.. فلم تهز قناعته الانهيارات... بقي على العهد للاتحاد السوفييتي حتى لو زال وللماويّةِ حتى لو انحرفت عن تراث ماو.. أما هو فلم ينحرف. فِهمَ التاريخَ بشكل نقدي. لماذا هكذا يا أبا صائب أصبت كبد الحقيقة؟ حقيقة الموت.. وبهذه السرعة.. لماذا كرهت ساعة الوداع؟ فلم ترغب أن يُعْلِمَ أهلوك أحدًا عن مرضك، ذوقًا منك... فلم تُرد أن تثقلَ على أحد.
كنتُ أود أن أقول لك هذه الكلماتِ وأنت على قيد الحياة.
وكان الأخ والصديق فتحي فوراني قد أتصل بي وطرح موضوع: تكريمك أثناء حياتك... فكفانا تكريما لأمواتنا.. وعلينا أن نقدر الحي قبل الميت.
طرحت الموضوع على الأخ والصديق مفلح طبعوني فقال: هيا بنا لكن لنبطئ قليلا ولنأخذ نفسا حتى نبتعد قليلا عن ذكرى الشيخ.. أبو اليرموك... ثم حاولت التشاور مع الرفيق زاهر بولس فلم أجده فسجلت له على هاتفه الخليوي ...
لكن أبا الصائب لم يمهلنا.. ولأن المرض استفحل به فجأة.. فغادرنا ونحن مشدوهين حيال السرعة التي بها ذهب ولم يعد.. غادرنا جسدُه.
عندما جاءني الخبر، ضحكت من سخرية القدر... وضحكت من سخرية الموقف وكأنك تقول لنا: لا بأس، لا بأس شكرا ولكن... ليس الأمر بيدي!
وكأنك تقول لنا: "إن الهزيمة تذكي الجانب النبيل في الإنسان وتحوّل رعونة الإنفعال إلى رزانة السؤال. وإن في الموت جمالية، وقد أورقت عكازتي... في الموت جمالية، لا تقل عن جمالية الحياة.. فيه نبدأ بالتفكير من جديد.. فيه تبدأ الحياة من جديد وفيه ولادة الجديد، فالموت يحمل بذور الحياة كما الحياة تحمل بذور الموت، عندما تستكمل دورتَها. هكذا! وهكذا دواليك تورقُ الدوالي في إعجاز العكاز.
وهكذا أيضا تقول لنا ما ردده جورج حبش في معرض حديثه عن هزيمة حركة القوميين العرب: "يجب أن نستفيد من هزيمتنا. ففي الهزائم من الدروس أحيانًا أكثر مما في الانتصارات... ومن الخطأ إغفال تاريخنا، وعدم إعادة قراءته وإخضاعه باستمرار للنقد والتحليل...".
وهكذا.. أيضا حارت بشريتي وتلبّكت إنسانيتي بسؤال إنصافك. كيف أنصفك أيها المربي المبدئي العنيد كنقطة ماء نزلت بإستمرار على صخرة الحياة فقدحتها؟
يا خالدٌ.. يا أبا الصائب، خلتُ أنني قادر على إنصافك في حياتك فهل أفلح بذلك في مماتك؟
وليد الفاهوم
السبت 14/6/2008