إحدى أهم القضايا التي شغلت القيادة الفلسطينية، وبالذات الرئيس عرفات عشية عودته إلى غزة في العام 94، كانت تدفق الأسلحة المهربة إلى غزة في الفترة ما بين اتفاق أوسلو وعودة القيادة الفلسطينية إلى هناك. هذا ما يطلعنا عليه المناضل الفلسطيني البارز، مروان كنفاني، في كتابه "سنوات الأمل" الصادر عن دار "الشروق" المصرية في نهاية السنة الماضية.
خشي عرفات من أن تتحول هذه الأسلحة إلى وقود حرب أهلية داخل غزة، التي بدأت بوادرها منذ الأيام الأولى لدخول القوات الفلسطينية لغزة.. يقول كنفاني إنه في الأيام الأولى لوصول هذه القوات قام شاب، قيل أنه من حماس وكنفاني يقول أنه لم يتم التأكد من ذلك، بإشهار سلاحه أمام مقر القيادة. في حينه وبالرغم من احتجاجات القيادة الأمنية، أصر عرفات على إطلاق سراح الشاب، دون تحقيق معه.
هاجس الحرب الأهلية، رافق عرفات طيلة سنوات عمله الكفاحي وقد نشط بكل ما يملك من قوة لمنع زج الشعب الفلسطيني في هذا الصراع المدمر، ويشعر المرء من خلال قراءة الكتاب، أن هذا الأمر، أي الامتناع عن اتخاذ إجراءات يتطلبها النظام والقانون خوفاً من شبح الحرب الأهلية، تناقض، بشكل جوهري، مع المبادئ الأساسية لوحدانية العمل الثوري والمؤسساتي المطلوب.
مذكرات مروان كنفاني الذي رافق الرئيس عرفات في أهم محطات حياته وخاصة في السنوات ما بعد رجوعه إلى الوطن، تحمل بُعدًا أكبر من التأريخ أو الذكريات الشخصية، فهي أيضاً تلخيص تجربة واستخلاص نتائج، ولهذا تحمل دراستها أهمية كبيرة، وخاصة لأبناء الشعب الفلسطيني.
هذه المذكرات تحمل كماً هائلاً من المعلومات ولكنها تأتينا بقراءة أخرى، قراءة تحاول أن تنظر من بعيد إلى ساحة الأحداث، لترى الأمور بصيرورتها وبرؤيتها الشاملة في وضع جميع العناصر المشاركة في بلورة القرار الفلسطيني، من خلال الصراع أحياناً ومن خلال الانسجام أحياناً أخرى، وبتحليل صعود قوى سياسية وأفول نجم قوى أخرى، وكل ذلك بأسلوب روائي مشوق، وهكذا يجد القارئ نفسه، حتى ذلك الملم بتفاصيل الأحداث على الساحة الفلسطينية، مأخوذاً بالكتاب.
هنالك الكثير من المعلومات الهامة والمعلومات الطريفة، التي تُظهر عرفات الإنسان المتواضع حتى التقشف، الذي سخّر كل حياته للثورة، عندما قام عرفات بحزم أمتعته، من مقر إقامته في تونس، في طريقه إلى غزة، تبين أن كل ما يملك هذا الرجل هو بضع "بناطيل" وقمصان، مثل أي إنسان على قد حاله.
وحول حميمية عرفات الصميمية، يخبرنا كنفاني في أحد الهوامش أن الرئيس كلينتون اقترح أن يرافق عرفات إلى مقر إقامته في منتجع "واي بلانتيشن" ولكن عند وصولهما باب مقر عرفات، أصر الأخير على مرافقة كلينتون إلى مقر إقامته، "حاول الرئيس كلينتون أن يثنيه عن ذلك، ولكن عرفات بقي على إصراره. قال له كلينتون بحزم أيها الرئيس عرفات، إذا قمتُ بالسير معك إلى مقر إقامتك ثم قمت أنت بتوصيلي إلى مقر إقامتي، ثم عدت لتوصيلك مرة أخرى ، فإننا سوف نقضي بقية الليلة في إيصال بعضنا"، والنتيجة حسب كنفاني أن عرفات "اقتنع" بهذا المنطق.
قصة المفاوضات مع الجانب الإسرائيلي هي قصة بالغة الإحباط، وتشعر خلال الكتاب، في أحيان كثيرة، بعبثية هذه المفاوضات، عندما يعود الجانب الإسرائيلي، ليفتح من جديد نقاط جوهرية تم الاتفاق عليها، بينما يتبنى الجانب الأمريكي موقف إسرائيل بالكامل، وكأن إسرائيل سيطرت على الخارجية الأمريكية.
في الكتاب يظهر بشكل جلي سيطرة العسكريين الإسرائيليين، وأن صوتهم هو الصوت المقرر. عندما طلب بيرس من الجنرال عوزي ديان أن يناوله الحقيبة، في إحدى جولات المفاوضات في طابا، قام الأخير، ويظهر أنه كان غاضباً من بيرس، بقذف الحقيبة بقوة إلى بيرس. فيما بعد قال عرفات لأعضاء الوفد الفلسطيني باستغراب: "هل رأيتم كيف ضربه الجنرال ديان بالحقيبة؟!"
كنفاني يحمّل شخصين مسؤولية فشل المفاوضات في الفترة ما بعد رابين. الأول هو بيرس الذي كان ضعيفاً أمام الجيش، ولم يستطع أن يواجه قيادات الجيش، ولم يملك القوة التي توفرت لرابين. والشخص الثاني هو دنيس روس، المبعوث الأمريكي الخاص، الذي تبنى بالكامل موقف الجانب الإسرائيلي في المفاوضات. يقول كنفاني أن روس تدخل بشكل فظ في احد الاجتماعات التفاوضية لمنعه (أي كنفاني) من مواصلة الترجمة لعرفات ولمنعه بالتالي من الجلوس إلى جانب عرفات لئلا ينبه عرفات "للمطبات الإسرائيلية".
قراءة حزينة
الرواية الفلسطينية هي رواية حزينة وخاصة في الظرف الحالي حيث يعيش الشعب الفلسطيني أصعب مراحل نضاله، وبالأساس على خلفية الانقسام الحاد الذي يعيشه، ليس فصائلياً فحسب بل جغرافياً أيضاً. بالطبع السبب الأساسي لذلك هو بشاعة الهجمة التي يتعرض لها هذا الشعب، ولكن هنالك أيضاً حاجة لفحص مجمل أساليب إدارة الصراع من الجانب الفلسطيني، أو بلغة أخرى نقاط ضعف حركة التحرر الوطني الفلسطيني.
وفي هذا الإطار، برأيي، أن الهاجس الأساسي لدى كنفاني هو ما كتبه في مقدمة الكتاب: "اتفق الفلسطينيون على أشياء كثيرة، اتفقوا عبر أجيال على حب بلادهم، والتضحية من أجل الحفاظ عليها.... ولكن الفلسطينيين اختلفوا، منذ البداية أيضاً على شيء واحد فقط، مَن مِنهم سوف يحكم فلسطين".. وفي الفصل الأخير والذي يظهر أنه قد كُتب بعد الانقلاب في غزة، يتحدث بتوسع عن هذا الأمر، ويمكن للمرء أن يلمس حزناً في كل كلمة قيلت هناك.
وجدت في الكتاب أربع نقاط مفصلية وتصلح أن تكون مرشدة لأية حركة ثورية:
- يتحدث كنفاني عن تجارب حركات مقاومة لم يكن بإمكانها أن تنتصر سوى من خلال وحدة قيادتها، وحدة القرار والتطبيق. وهو يراجع التجربة الفلسطينية في العام 48 أيضاً، حيث "لم تكن هنالك قيادة فلسطينية مركزية لإدارة مجريات الحرب". ويتحدث كنفاني عن تجارب في التاريخ الحديث التي تؤكد الأهمية القصوى لوجود قيادة مركزية: "لقد قامت جبهة التحرير الجزائرية بإنهاء تنظيم المقاتلين الشيوعيين الذين قد بدءوا بالتجمع في تنظيم مواز.. وفعلت ذلك القوات الموحدة الفيتنامية خلال حرب التحرير.. وانتهج أتاتورك والحزب الشيوعي الروسي وكاسترو والخميني وحزب الله .. نفس هذا الأسلوب لتأمين وحدة العمل ومركزية ووحدانية القرار"
- ولا أقل أهمية من ذلك، نقرأ في الكتاب: "لقد علمنا التاريخ بأنه لا جدوى من التركيز في العمل في سبيل حرية الشعوب على المواجهة المسلحة فحسب، إن لم تترافق مع السياسات التي تؤمّن لهذا العمل سبل النجاح..".. "لم يتم نيل الاستقلال للدول المحتلة إلا باستخدام المقاومة والعنف.. في ظل سيطرة كاملة لقيادة موحدة ذات برنامج سياسي مرحلي قابل للتطبيق.." ويورد أمثلة واضحة في هذا المجال.
- والأمر الثالث الهام في هذا السياق: "تم لجبهة التحرير الجزائرية تحقيق الاستقلال دون أن تستهدف المدنيين الفرنسيين، مع قدرتها على ذلك، وأمكن لحزب الله تحرير الجنوب اللبناني في تحاش صارم لقتل مدنيين إسرائيليين، رغم قدرته أيضاً على ذلك، وتجنبت الفيتام، رغم وجود مئات الآلاف من رعاياها في فرنسا والولايات المتحدة العمل ضد المدنيين، على الرغم من الأعمال الوحشية التي مارستها قوات الاحتلال ضد المدنيين اللبنانيين والجزائريين والفيتناميين، ولقد أدرك الرئيس عرفات تلك الحقيقة مبكراً خلال رحلته النضالية".
- والأمر الرابع برأيي هو ما يمكن تسميته "نظرية التراكمات"، يقول كنفاني: "أبرزت تلك التجارب البشرية، معنى البناء التراكمي على الانجازات التي يتم تحقيقها... كانت اتفاقات إيفيان الأولى الفرنسية مع جبهة التحرير الجزائرية مجحفة بالحق الجزائري... ووافق التونسيون، بعد انتفاضاتهم المتعاقبة، على استقلال محكوم بصيغة حكم ذاتي لمدة سنوات طويلة. وقبلت مصر... عدة اتفاقات سياسية مع بريطانيا كانت تحد من استقلالها وسيادتها".. ويورد الكثير من الأمثلة في هذا الصدد، حول سوريا والسودان والعراق ولبنان وكوبا والمكسيك... بمعنى أن حركات التحرر لا تصل إلى مطالبها مرة واحدة ومن الضروري فهم الأمور في صيرورتها وعدم رؤية أي اتفاق كأنه نهاية القصة.
مروان كنفاني هو ابن الثورة الفلسطينية وفي الكتاب سرد شخصي، متمنع حضاري لسيرة حياته، وهو شقيق الكاتب الفلسطيني الفذ الشهيد غسان كنفاني الذي سقط في انفجار إجرامي دبرته المخابرات الإسرائيلية، وفي حينه سقطت معه ابنة أخته غضة العمر.
أهمية هذا الكتاب ليس بقراءة انتقائية منه، مع أهمية الأمثلة التي أوردتها. لأن هذا الكتاب هو بمثابة قراءة أخرى للتاريخ، الذي قد نعرف الكثير منه، ولكننا بحاجة إلى تناوله تناولا نقدياً فالهدف أيضاً أن نتعلم من تجاربنا. وهذا السرد المتميز لمروان يعطي أهمية كبيرة ومميزة وخاصة أن الكاتب قادم من قلب الأحداث.
وأخيراً، يتحدث كنفاني عن عراف هندي مشهور قابل عرفات وقال له إنه، أي عرفات، سيكون في فلسطين خلال سنتين، وقد كانت تلك الفترة من أصعب فترات النضال الفلسطيني، فكان عرفات في عزلة من قبل القيادات العربية، بسبب مواقفه في حرب الخليج الأولى، والقيادة الفلسطينية في تونس بعيدة عن شعبها.. بعد سنتين كان عرفات يخطب في غزة.. طبعا أنا لست من مريدي المنجمين.. ومع ذلك أقول أنه بالرغم من الصعاب الداخلية والخارجية التي تواجه الشعب الفلسطيني، فهذه الصعاب تعمق من وعيه أيضا باتجاه موقفه من نفسه ومن المعوقات الداخلية التي إذا عالجها الشعب الفلسطيني سيكون يوم تحقيق أمانيه قريباً وبرأيي أن قد شرع بذلك.. وهذه السنوات على شدتها هي أيضاً سنوات أمل.
عودة بشارات
الأربعاء 11/6/2008