بداية ومنعا لأي التباس أقول بأني لست من المؤيدين للتقسيمات الميتافيزيقية ومن أشد معارضيها عند محاولة فرضها على السياسة، بحيث نحول طرف معين الى ناطق بلسان الله وفريق آخر حتى لو كان موغلاً في "الشيطنة" بأنه ناطق بلسان الشيطان، حيث أني أومن بأن لا الله ولا الشيطان لهما علاقة فيما يحدث على الساحة السياسية بشكل عام، وان اعمال الخيانة والارتهان للأمريكي على سبيل المثال هي ليست نتيجة وسوسة شيطان وانما نتيجة مصالح سياسية اقتصادية محضة، الشيطان منها "براء" وحتى أقول أكثر من ذلك ان "الشيطان الأعظم" الأمريكي (بسياسة حكوماته) هو ليس شيطان وتلبيه دور الشيطان ما هو الا تخفيف لدور الإدارات الأمريكية الاستعمارية المختلفة والتي تنبع عن مصالح "بشرية" واستغلال لمقدرات البشر بشكل هو الأكثر بشاعة ويعجز عنه حتى الشيطان.
أما بعد،
فمما لا شك به ان أنظار العالم أجمع اتجهت خلال الفترة الأخيرة نحو البلد الصغير المسمى لبنان بعد تحول الحرب "الباردة" بين الطرفين المختلفين والتي اشتملت أساسًا على الإعتصامات والمظاهرات والتصريحات النارية بين أقطاب الموالاة والمعارضة في لبنان الى حرب "ساخنة" لا بل غاية في السخونة وقع خلال حوالي الـ100 قتيل بالإضافة الى عدد أكبر من الجرحى بالإضافة الى إعادة الجميع الى مشاهد الحرب الأهلية المقيتة والتي استعرت في هذا البلد الصغير على مدار 15 عاما ونيف بين الأعوام 1975- 1990.
هذه الحرب الصغيرة والتي أفرزت خلال فتره قصيرة جدًا انتصار عملياتي للمعارضة ولمعسكرها والذي على رأسه حزب الله اللبناني حلحلت وحركت الجمود السياسي الذي كان قائما خلال الفترة الماضية بين الفريقين المتخاصمين. ولعل غباء الخطوة التي قامت بها الحكومة اللبنانية برئاسة فؤاد السنيورة والتي على ما يبدوا لم تحسن الحساب أو أن "أصدقائها" قد خانوها فلم يحركوا ساكنًا بعد الحسم السريع الذي قامت به المعارضة، أقول لعل غباء هذه الخطوة أفضى الى اتفاق الدوحة بإيجابيته المرحلية والتي أوقفت الانزلاق نحو الحرب الأهلية "كاملة المعالم" في بلد عانى الكثير من الحروب الأهلية منها والإقليمية وحتى الدولية التي وجدت على أرضة مسرحا لتصادماتها وتصادمات مشاريعها ومصالحها.
عبقت الصحافة في العالم العربي أجمع وأيضًا هنا في البلاد بمقالات التعبير عن الفرح والسرور للتوصل الى اتفاق الدوحة آنف الذكر، وأنا أفهم هذه الفرحة لجماهير ولشعوب لها في قلبها مكان خاص لهذا البلد الصغير المسمى لبنان والذي هو عبارة عن رئة حرية (وان كانت نسبية) في هذا الوطن العربي الكبير المكبل بالقيود والمحجوز خلف الأسوار. وارتفعت أسهم هذا البلد أكثر وأكثر مع النصر الذي حققته القوى المقاومة أمام الجبروت الإسرائيلي في حرب تموز من العام 2006.
ولكن لا بد من الانتباه الى حقيقة ما يجري في هذا البلد وان لا تضيع علينا فرحة "الإنجاز" المرحلي بالتوصل الى هذا الاتفاق الرؤية لما سيتبع هذا الاتفاق خصوصا وان مقومات انفجار هذه الأزمة وجذورها لم تعالج وأخشى ما أخشاه أن تكون هذه الفرحة سابقة لأوانها ومع الأسف الشديد بأنها لن تدوم طويلا.
وهي لن تدوم لعدة أسباب أهمها:
• لو كانت المشكلة هي مشكلة تقاسم الوزارات والوزراء لقلنا ان الأمر انتهى لكن ما يحدث في لبنان هو عبارة عن تصارع نهجان الأول مرتهن للأمريكي ولتحالفاته الإقليمية مع ما يسمى دول "الاعتدال" العربي والتي تضم بالإضافة الى السعودية أغلب الدول العربية التي تزحف على أربع أمام السيد الأمريكي وبضمنها مصر، الأردن ودول الخليج بما فيها قطر التي بدوحتها جرى التصالح بين الفرقاء. وبين مشروع مقاوم الى حد كبير تلاقت مصالحه مع قوى ودول إقليمية مثل إيران وسوريا والتي تقف اليوم في صف المقاومة والممانعة، هذا النهجان ان صحت حقيقتيهما لا يمكن ان يستكينا ويستمرا في العمل سويًا من دون حدوث انفجار إضافي يؤدي بمرحله منه الى كنس أحد هاذين التوجهين.
• السبب الآخر هو انه قد يكون اتفاق الدوحة قد حل عوارض المشكلة أو الأزمة الحالية في النظام السياسي اللبناني، لكنه لم يحل عصب هذه الأزمة وجذورها والمتمثلة بالنظام السياسي القائم على الطائفية السياسية الأمر الذي يعني بأن كل زعيم سياسي بحاجة الى إذكاء نار المشاعر الطائفية طوال الوقت من أجل الحصول على المكاسب السياسية، لذلك نرى أن أغلب الأحزاب اللبنانية هي أحزاب طائفية وحتى حزب مثل حزب الله على الرغم من مقاومته وصموده الأسطوري والذي يدعو للاحترام الا انه في نهاية المطاف هو حزب طائفي، ولا يشفع له انه يحاول ت مثيل الطائفة الشيعية والتي كانت على مدى التاريخ السياسي اللبناني أكثر الطوائف اضطهادا من قبل المؤسسة السياسية اللبنانية. نستثني من هذه التقسيمة الطائفية بعض الأحزاب التي لها تاريخ عريق ووجود حالي في مختلف المناطق والطوائف مثل الحزب الشيوعي اللبناني والذي على الرغم من ميله أكثر نحو قوى المعارضة نظرا لتقاطع فكره المقاوم للمشروع الأمريكي معها الا انه أبقى على الفوارق الكبيرة ا لتي تفصله عن هذه القوى مثل النضال للعدل الاجتماعي والاقتصادي والعمل على تغيير النظام السياسي اللبناني من أساسه وليس مجرد العمل على وضع تحسينات تجميلية كما حدث ويحدث الآن. كذلك لدينا حزب مثل الحزب القومي الاجتماعي السوري الذي هو أيضا يضم بداخلة أعضاء من مختلف المناطق وكذلك حركة الشعب وغيرها من الحركات والأحزاب الصغيرة.
• الفئة المهزومة في الصدام الأخير والتي تتمثل بقوى الموالاة وداعميها الأمريكان والعرب المعتدلين لن يرضوا ببقاء الحال على ما هو عليه ولن يسمحوا لقوى المعارضة ان تترجم هذا الانتصار المرحلي الهام الى انتصار دائم وسوف يقومون بكل الوسائل والطرق للانقلاب على الوضع الراهن متى سنحت لهم الفرصة لذلك.
لذلك وطالما ان الجذور لم تحل ولم تعالج فالوضع دائم التهيؤ والإستعداد لحرب أهلية جديدة في لبنان، لو كنا نعمل ونحلل من باب التمني والأمنيات لكنت أول المصلين بأن يسقط هذا التحليل ولا يرى النور؛ لكن وللأسف طالما بقيت الطائفية هي الأساس في لبنان وطالما بقيت شعوبنا تتلاعب بها "قوى الشيطان" فلا نملك إلا الترديد مع زياد الرحباني وجوزيف صقر بأن الحرب الأهلية للأسف: "راجعه بإذن الله ان قلتوا ايه وان قلتوا لا".
عبد كناعنة
السبت 31/5/2008