قالت لي جدّّتي أنني عندما كنت طفلاً، كنت ولدا شقيًا.. وقد استعصى على أهلي موضوع إدخالي إلى المدرسة. فكنت أهرب منها بإستمرار.
كان بيتنا وما زال قرب الجامع الأبيض في الناصرة.. وبلصق الجامع كانت "مدرسة فتحي" وكانت أشبه بكُتّاب الحي، فيها صف واحد، يتم فيه تعريب الأولاد لثلاثة مستويات- تمهيدي وبستان وأول بلغة اليوم. وكان الأستاذ فتحي الدريني هو المدير والمربي والآذن في نفس الوقت.
وحتى أرغب بهذه المدرسة إعتادت جدتي أن تودع لدى الأستاذ فتحي بعض الحلوى من حزوز الليمون والملبس عالوز والقطين والهَريسة... وكان هذا الأستاذ يستدعيني لمكتبه أثناء الفرصة، ويعطيني شيئًا منها... وكنت أعود للبيت فرحًا، أُحدث جدتي ووالدي كم هي جميلة المدرسة وكم أن هذا الأستاذ المدير والراعي والمعلّم كريما؛ فهو يعطيني الحلوى...
هكذا سلكت أمور المدرسة وأنا أشعر بالنشوة وبالتمايز.. وكان عمري ما بين ثلاث إلى أربع سنوات.. إنطلت الحيلة علي.. وهي طريقة فذّة جاءت من قبل جدّتي الأميّة.
وتمرُّ الأيام... تنقسم العائلة في أعقاب حرب الثمانية وأربعين نهرب إلى لبنان ونبقى حوالي سنة ونصف هناك ثم نعود متسللين إلى الوطن (ونُتحّن) ونبقى منزعين فيه.
وتمر الأيام وألتقي بفتحي فوراني نتحدّث عن ذكريات مدرسة فتحي الدريني ووالده أمام الجامع وإخوته وأشقاءه وكان والده قد تزوج من إمرأتين.
يسرح فتحي أثناء الحديث، يغمص عينيه.. يتحلّب فاه.. يقول لي: لا زال طعمها تحت لساني.
اقول: ما هي؟
يقول: قطعة الهريسة.
أقول: أية هريسة؟
يقول: تلك التي تقاسمناها منذ أكثر من ستين عامًا...
قلت: كيف...
وكنت لا أذكر شيئًا من هذا القبيل.
قال: كنا في مدرسة فتحي.. أتذكر؟ وفي إحدى الفرص كانت معك قطعة هريسة.. نظرت إليك تحلّب فاهي.. وبدون أن أطلب رحت تقسمها إلى نصفين.. وتعطيني نصفًا وتأخذ النصف الآخر...
قلت: لا أذكر.. ولا غرابة في الأمر فمن يعطي عليه أن ينسى. ومن يطعم البحر عليه أن ينسى وإلاّ كان منّانًا.
ولا بأس يا صديقي فقبل ستين عامًا أو نيّف تقاسمنا بعض الحلوى أما الآن.. ولا بأس في ذلك أيضا فإننا نتقاسم الهموم الشخصية والوطنية والقومية والأممية. ولا بأس يا صديقي دعني أُهديك في هذا المساء بعض الكلمات الجميلة التي تستحقها،دعني أكتب لك عنك، لا سيّما وأنت قد عودتنا أن تكتب عن الآخرين كلامًا جميلاً وكريمًا.. والكرم أن تجود بالموجود... والكرم أيضًا أن تتذكر هذا الدرس في اشتراكيتنا الطفولية... لست أنا الكريم.. إنما أنت، لست أنا الكريم فقطعة الهريسة هي التي جعلت مني أديبًا يحب حروف اللغة العربية ويتشبث بأرض الوطن بأسنانه وأظافره بعد تعلمت القراءة والكتابة. أذكر أنني عندما كان يعنُّ على بالي أن آكل الهريسة كنت أذهب إلى المدرسة.
أتذكر يا أخي وصديقي الأناشيد التي تعلمناها وحفظناها عن ظهر قلب وقتئذ؟
"أنا المحبوبة السمرا
وأغلى بالفناجين
وعود الهند لي عطر
وذكري شاع في الصين"
فهل تذكر تلك الأيام الحلوة كحلاوة الهريسة- هريسة الديماسي وهريسة أبي حافظ؟ حفظك الله!
وليد الفاهوم
السبت 24/5/2008