ما حدث علي الأرض في بيروت أمر سييء لا ريب، لكن الأسوأ منه هو المعالجة العربية له، علي الصعيدين السياسي والإعلامي. قبل خمسة أشهر كنت في بيروت، ووجدت أن خبر الصدام المسلح علي كل لسان وشواهده بادية لكل ذي عينين. إذ لم يكن سرا أن بعض الميليشيات المسلحة التي خاضت حرب الثمانينيات مازالت تحتفظ بسلاحها (القوات اللبنانية مثلا بقيادة سمير جعجع). كما لم يكن سرا أن بعض القوى المستجدة حشدت ما استطاعت أن تجمعه من عناصر موالية، وأوفدتهم إلى اثنتين من الدول "العربية المعتدلة" (ذكرتا بالاسم)، حيث تم تدريبهم على السلاح، وعاد هؤلاء إلى بيروت لكي يشكلوا ميليشيا جديدة، تم تزويدها بما تحتاجه من عتاد وذخيرة (كما حدث مع تيار المستقبل الذي يقوده سعد الحريري).
وكان ذلك جزءا يسيرا من عملية التعبئة التي شهدتها العاصمة اللبنانية، والتي كانت لها مظاهر أخرى تمثلت في تعزيز كل طرف لمواقعه، وتشديد إجراءات حماية الأبنية التابعة له، وانتشار شركات الحراسة الخاصة، وارتفاع أسعار السيارات المصفحة الواقية من الرصاص.. الخ. بالتالي فإن السؤال الذي كان يشغل الجميع لم يكن هل ينفجر الصدام المسلح أم لا، ولكنه كان منصبا على موعد ذلك الانفجار وتوقيته. وحين صرح مساعد وزير الخارجية الأمريكية ديفيد وولش بأن لبنان ينتظره صيف ساخن، فإن كثيرين توجسوا شرا وتوقعوا أن تكون الإشارة منذرة بوقوع الأسوأ مع حلول الصيف.
لم يكن الانقسام جديدا على الحالة اللبنانية، التي هي نموذج لبلد الطوائف بامتياز. إذ الطائفة هي الأصل وليس المواطن. وحظوظ كل طائفة وحدودها واضحة في الدستور والقانون. وهي صيغة توافق عليها الجميع وارتضوها، بعدما تم تثبيتها في اتفاق الطائف الذي تم توقيعه عام 1989، حين تم إسدال الستار على مشهد الحرب الأهلية التي استمرت أربعة عشر عاما. لكن الانقسام هذه المرة كان أكثر تعقيدا وأشد عمقا. لأن شكل الصراع اختلف، أما موضوعه فقد غدا أشد اختلافا وأخطر.
(2)
لا أحبذ استخدام مصطلحي الأكثرية النيابية والأقلية في توصيف طرفي الصراع، لأن التعبير غير دقيق ويكاد يكون مضللا. وأفضل عناوين من قبيل قوى الموالاة والمعارضة، أو 14 آذار والثامن منه. ذلك أن الأكثرية المفترضة في مجلس النواب والتي يقودها النائب سعد الحريري، لم تحقق أغلبيتها في انتخابات عام 2005 إلا بأصوات " التحالف الرباعي" الذي ضم حينذاك حزب الله وحركة أمل والحزب التقدمي (جنبلاط) وتيار المستقبل (الحريري)، وبفضل أصوات حزب الله وأمل حصل الآخرون على 11 مقعدا في دائرة بعبدا- عاليه ثم انقلبوا على حلفائهم بعد ذلك، مما عزز من موقف " الاكثرية" في البرلمان.
في الوقت الراهن فإن قوى الموالاة المساندة للحكومة تضم الأطراف التالية: تيار المستقبل (سنّة- الحريري)، الحزب التقدمي الاشتراكي (دروز- جنبلاط)، القوات اللبنانية (موارنة- جعجع)، حزب الكتائب (موارنة- أمين الجميل)، أما قوى المعارضة فتضم كلا من حزب الله (شيعة- نصر الله)، تكتل التغيير والإصلاح (موارنة- عون)، حركة أمل (شيعة- بري)، فريق درزي آخر يقوده طلال أرسلان ووئام وهاب، جبهة العمل الإسلامي (سنة- فتحي يكن)، اللقاء الوطني (سنة- عمر كرامي)، الحزبان القومي السوري والشيوعي وهما حزبان يرفضان النظام الطائفي، ويضمان أعضاءً من مختلف الطوائف، ويطرح الحزب الشيوعي تحديدًا مشروعًا للقضاء على نظام المحاصصة الطائفي في لبنان، ويطرح مشروع نظام علماني.
كما رأيت فإن الصراع ليس بين مسلمين ومسيحيين ولا بين سنة وشيعة، ولكن كل معسكر يضم مختلف ألوان الطيف اللبناني، من شيعة وسنة ودروز وموارنة، إلا أن ذلك ليس كل ما في الأمر، لأن الصورة لا تكتمل إلا إذا وقفنا على طبيعة القوى الخارجية التي تدعم كل جانب، لأن لبنان كان ولا يزال ساحة تتداخل فيها العوامل الداخلية والخارجية، الإقليمية والدولية، وهو أمر ليس فيه سر، لأنك حين تقرأ صحف الصباح تستطيع أن تعرف علي الفور من يساند من في لبنان. ومن الأخبار والتصريحات المعلنة ستعرف أن فريق الموالاة وحكومة السنيورة التي تمثله مؤيدة من قبل الولايات المتحدة وفرنسا وإسرائيل وبعض الدول العربية، أما فريق المعارضة فلا يؤيده من الناحية الرسمية سوى سوريا وإيران والمقاومة الفلسطينية ممثلة في حماس والجهاد والجبهة الشعبية.
هذه التحالفات تسلط ضوءا قويا على موضوع الصراع وجوهره الذي محوره سلاح حزب الله، الذي استطاع أن يصد الاجتياح الإسرائيلي للبنان في سنة 2006، وأن يلحق بها هزيمة لا يزال القادة الإسرائيليون يلعقون جراحها حتى الآن. صحيح أن مطلب نزع سلاح الحزب ظل مثارا في لبنان، منذ أثبت حضوره في عام 2000، حين نجح في تحرير الجنوب من الاحتلال الإسرائيلي، إلا أنه أصبح أشد إلحاحا في أعقاب الهزيمة الإسرائيلية التي تحققت في صيف عام 2006 إذ كان مطلوبا أمريكيا وإسرائيليا التخلص من ذلك السلاح لتحقيق أهداف عدة، من بينها تطويع لبنان وإلحاقه بقطار التطبيع ومربع "الاعتدال"، وإضعاف الموقف السوري الممانع وإحكام الحصار حوله. بل إن نزع ذلك السلاح أصبح شرطا لتوجيه الضربة العسكرية الأمريكية المفترضة لإيران، لأن هذه المغامرة تبدو خطرة ومكلفة طالما ظل حزب الله يمتلك صواريخ قادرة على الوصول إلي العمق الإسرائيلي. وكان السيد حسن نصرالله قد تحدث علنا عن تلك الصواريخ في إحدى خطبه.
ثمة لغط كثير وذرائع عدة تستدعي في سياق التجاذب بين الفريقين، ولكن يظل سلاح حزب الله هو المحرك الكامن وراء كل المماحكات والتجاذبات، التي تتحدث عن قانون الانتخابات وتوزيع الدوائر والحصص في الحكومة، وعدم انتخاب رئيس الجمهورية. وللعلم فإن رئيس الجمهورية السابق إميل لحود تمت مقاطعته من جانب قوى الموالاة لمدة سنتين، ولم يثر ذلك حفيظة أحد من الذين ما برحوا يصرخون ويندبون حظ لبنان مؤخرا بسبب خلو مقعد رئيس الجمهورية.
(3)
طال أمد الشقاق بين فريقي الموالاة والمعارضة لأن النظام اللبناني قائم على قاعدة التوافق أو التراضي بين الجماعات السياسية والطوائف المختلفة، بصرف النظر عن حجم تلك الطوائف وما إذا كانت أغلبية أم أقلية. بالتالي فإن خروج أي طائفة من اللعبة يؤدي مباشرة إلى إيقاف حركتها وتعطيل القرار السياسي. وخلال العام الأخير الذي كان الشحن السياسي فيه مستمرا، حرص الجميع على تسكين الوضع وتجنب تفجيره بما يعيد إلى الأذهان سنوات الحرب الأهلية البائسة.
ليست معروفة على وجه الدقة ملابسات التصعيد المفاجئ من جانب فريق الموالاة، الذي مهد له السيد وليد جنبلاط حين تحدث فجأة عن شبكة اتصالات لحزب الله أمرها معروف للدولة اللبنانية منذ عشرين عاما، وقال إن الشبكة تعد اعتداء على سيادة لبنان، وبعد كلامه قرر مجلس الوزراء فتح تحقيق في الموضوع، وإقالة مدير أمن المطار العميد وفيق شقير، لأن الشبكة كان لها امتدادها في المطار، وهو ما اعتبرته المعارضة افتعالا لأزمة ومحاولة لكسر العظم تمهيدا لحسم الموقف المعلق، خصوصا أن الاتفاق كان منعقدا على ألا تجري الحكومة تغييرا في الوظائف الرئيسية في هيكل النظام إلا بعد تسوية الملفات العالقة بين الطرفين، وقد وصف السيد حسن نصرالله القرارين بأنهما بمثابة إعلان حرب على المعارضة وليس حزب الله فقط. وهو ذات المعنى الذي عبر عنه النائب نبيل نقولا عضو تكتل التغيير والإصلاح الذي يتزعمه العماد ميشيل عون.
لأنّ التصعيد كان مفاجئا، وفي الوقت ذاته اقترن بتحركات عسكرية أمريكية مريبة ليست بعيدة عن الساحل اللبناني، فان ذلك أثار شكوك قوي المعارضة، مما دفع حزب الله الى توجيه ضربة استباقية تجهض احتمال استدراج المعارضة الي مواجهة تمهد للانقضاض عليها تحقيقا للهدف الذي تسعي اليه مختلف الدوائر المتربصة في المعسكر الآخر. فجاء الرد على مستويين، فمن ناحية طالبت المعارضة الحكومة بالعدول عن قراريها، و في الوقت ذاته قامت قوات الحزب بالاستيلاء علي مقار تيار المستقبل الذي يقوده سعد الحريري والحزب التقدمي الاشتراكي بقيادة وليد جنبلاط، وتم تسليم هذه المقار إلى الجيش. وبطبيعة الحال فقد تخللت العملية مواجهات مؤسفة واشتباكات أدت إلى سقوط أعداد من القتلى والجرحى، وكان لهذه الاشتباكات صداها في بعض المدن اللبنانية، التي استنفرت فيها مجموعات أخرى مثل الحزب القومي السوري، واتخذت الاشتباكات منحى طائفيا في بعض الأحيان، على النحو الذي تناقلته التقارير الصحفية ووسائل الإعلام المختلفة.
(4)
كان مثيرا للانتباه أن الصراع الدائر على الأرض كان له صداه المباشر والقوي في وسائل الإعلام العربية. ورغم أن الجميع أقر بخطأ التصعيد الذي تورطت فيه الحكومة، حتى طالبتها قيادة الجيش بإلغاء قراريها اللذين تعلقا بشبكة الاتصالات وعزل قائد أمن المطار، وهو ما تمت الاستجابة له في نهاية المطاف، الأمر الذي من شأنه تسكين الموقف، إلا أن الحرب الإعلامية استمرت بغير هوادة. تجلى ذلك في ثلاثة أمور: أولها وأخطرها أن الصراع أريد له أن يتحول إلي اشتباك بين الشيعة والسنة، بحيث يصبح الصراع السياسي في بدئه ومنتهاه صراعا طائفيا، يصرف الانتباه عن القضية الأساسية المتمثلة في نزع سلاح حزب الله وتصفية المقاومة. الأمر الثاني أن بعض الأبواق الإعلامية تحدثت عن "انقلاب"" قام به حزب الله.
وكان ذلك أمرا مدهشًا لأن تحرك الحزب لم يكن ضد السلطة التي احتفظت بشرعيتها كما هي، وإنما كل ما قام به أنه اضطر بعد التصعيد إلى اجهاض ما يدبر ضده من خلال الاستيلاء على مقار حزبي الحريري وجنبلاط. ولا بد ان نلاحظ انه لم يبق في تلك المقار، وإنما سلمها إلى قيادة الجيش. الأمر الثالث أن الأبواق ذاتها تحدثت عن تمدد إيراني في لبنان، غمزا في دعم إيران لحزب الله الذي هو معلن وليس فيه سر. كما أن أهدافه واضحة للعيان، في حين لم تشر تلك الأبواق إلى القوى التي تساند الطرف الآخر وتدفعه إلى تحدي حزب الله ومحاولة تصفيته، وسكتت تماما على مقاصد تلك القوى والمخططات التي ترمي إليها. ولكن التصريحات المتتالية المؤيدة للحكومة التي صدرت من واشنطن وباريس وتل أبيب محاولة إقناعنا بأنها واقفة مع السنة ضد الشيعة في لبنان، كشفت المستور وأزالت الالتباس في الموضوع.
ربما استطاع لقاء الدوحة الذي دعي اليه الفرقاء اللبنانيون ان يحل بعض المشاكل العالقة، لكنني ازعم ان ملف الصراع سيظل مفتوحا طالما بقي حزب الله محتفظا بسلاحه و ظل ذلك السلاح شوكة في خاصرة اسرائيل. ولا استبعد والامر كذلك ان يطول امد الصيف الساخن بحيث يعقبه شتاء ساخن ايضا. وذلك ظن ارجو ان تكذبه الاسابيع القادمة.
فهمي هويدي
السبت 24/5/2008