ونحن لا نستطيع أن نعتمد على "أخلاقيّة" بعض المسؤولين الحكوميّين الذين لا "يجعلون معها قليلاً من القُطران"، ولا سيّما أنّ وزيرة المعارف هي رئيسة مجلس التعليم العالي، وهي التي ينبغي أن تدير وتغيّر السياسات، وألاّ تكتفي بوضعيّة الحياد ووصف القرار بأنّه إشكالي وإلى هنا ينتهي دورها
ماذا يفعل الطالب العربيّ المتفوّق في دراسته إذا قرّر أن يدرس الطبّ، على سبيل المثال؟ أمامه جملة من الإمكانيّات: إمّا الانتظار على قارعة الشباب حتّى يبلغ سنّ العشرين، وإمّا أن يُسافر إلى الخارج للتعلّم هناك، وإمّا أن يتعلّم موضوعًا ما كتجزية وقت أو كتمهيد لدراسة الطبّ لاحقًا، وإمّا تأدية "الخدمة المدنيّة" كما تشتهي السلطة ، وإمّا أي شيء آخر تستطيعون إضافته. وكلّ فراغ ينشأ في هذه المرحلة محفوف بمخاطر شبابيّة/ مجتمعيّة أو سلطويّة في ظلّ النقص الحادّ في الأُطر الاجتماعيّة. وكلّ هذا لا يصبّ في مصلحة الشابّ العربيّ، وخاصّة صفوة الشباب في التحصيل العلميّ، الذين يريدون الالتحاق بكلّـيّات الطبّ أو الخدمات الاجتماعيّة.
* * *
خلال الشهريْن الماضيين، زرتُ عشرات المدارس الثانويّة، وقد كان الهمّ الأساسيّ للطلبة المتفوّقين يُراوح مرحلة إنهائهم الثانويّة، بعد أن حدّدت جامعة تل أبيب والجامعة العبريّة القبولَ لدراسة الطبّ وملحقاته والخدمات الاجتماعيّة ببلوغ العشرين من العمر وما فوق.
من الواضح للجميع أنّ هذا تمييزٌ عن سبق إصرار وتخطيط، ويرمي إلى قطف رأس الطلبة الأكثر نجابة وتحصيلاً، وهو يتوازى مع مخطّطات تُحاك ضدّ هذا الجيل ومنها: "الخدمة المدنيّة"، والشرطة الجماهيريّة، وَ "الحرس المدنيّ"، وتعليم طلبة المدارس الثانويّة العربيّة مصطلحاتٍ صهيونيّةً ضمن مشروع "المائة مصطلح"، وتوقيع الطلبة على وثيقة "استقلال إسرائيل"، وبرنامج الستّين عامًا لقيام دولة اسرائيل في المدارس العربيّة، وغيرها من المشاريع التي اصلبّ عودها بعد أكتوبر 2000.
وقد برّرتْ جامعة تل أبيب عدم قبول مَن هم دون سنّ العشرين، بذريعة أنّهم غير ناضجين، ولكنّها لم تتورّع عن كتابة بند إضافيّ توضيحيّ ملخَّصُهُ أنّ الطلاّب العسكريّين (الذين يتعلّمون على حساب الجيش ليخدموا- فيما بعد- ضمن اختصاصاتهم) يستطيعون التعلّمَ ابتداءً من بلوغهم سنّ الثامنة عشرة! وهكذا تصبح الصورة أكثر وضوحًا، فكلّ العرب الذين لا يخدمون في الجيش لا يستيطعون التعلّم قبل سنّ العشرين، بينما "الطلاب العسكريّون" يستطيعون ذلك؛ وهكذا فالجامعة تدحض ادّعاءها بنفسها حول نضوج أبناء الثامنة عشرة، فهم ناضجون إذا كانوا سيخدمون في الجيش بعد ذلك، أمّا إذا كانوا من الذين لن يخدموا فهم غير ناضجين!
ولتبرير هذا الاستثناء المستهجَن، كتبت الجامعة أنّ سبب قبول الطلاّب العسكريّين هو "الحاجة القوميّة"، ضاربةً بعُرض الحائط الحاجةَ الديمقراطيّةَ. أمّا مسألة النضوج، فهي ذريعة واهية، وذلك أنّ طلبة الطبّ يُشترَط لقبولهم أن يجتازوا امتحانًا عسيرًا يُعرف باسم "امتحان المور" (وهو، في حدّ ذاته، معيق للطلبة العرب على وجه الخصوص)، يتضمّن عقبات نظريّة وعمليّة في مدّة تستغرق عدّة ساعات، ويتقرّر من خلاله مدى نضوجهم، كما أنّ أحد أسباب عدم النضوج هو عدم التأهيل الجدّيّ للطلبة في العديد من المدارس الثانويّة العربيّة، وبهذا فمسألة "عدم النضوج" لدى العربيّ أبرز من تربه اليهوديّ.
وهنا يمكننا أن نسأل إدارة الجامعة عن سبب موافقتهم على أن يتعلّم الطلاب العسكريّون (العيتوديئيم) من سنّ الثامنة عشرة، ألأنّ صحّة الجيش الإسرائيليّ غير مهمّة ويمكن أن يعالجها أطبّاء غير ناضجين؟! أم إنّ الطلبة العرب غير ناضجين لأنّهم عرب -إلاّ إذا اعتبرت دولةُ إسرائيل صحّةَ المواطنين العرب أهمّ من صحّة الجنود الإسرائيليين؟!
والغريب في الأمر أن غالبيّة المواضيع التي تسمح الجامعات بتعلّمها من جيل الثامنة عشر هي التي ينهي الطالب تعلّمها بعد ثلاث سنوات، أمّا الطبّ فينهي الطالب تعلّمه بعد سبع سنوات ممّا يتيح له مساحة اكبر من النضوج، كما أن طالب الطبّ لا يمارس الحياة العمليّة في التعليم قبل السنة الرابعة.
ومسألة النضوج، هنا، تتداعى أمام مُعطًى ساطع هو أنّ 11% من اليهود الذين يدرسون الطبّ لا يتابعون في هذا الموضوع لأسباب عدّة وقد بدأوا التعلّم من سنّ فوق الحادية والعشرين، مقابل 13% من العرب الذين بدأوا التعليم من سنّ الثامنة عشرة. ومن الواضح أنّ الفرق هو بسيط جدًّا ولا يبرّر أبدًا عدم نضوج ابن الثامنة عشرة أو عدم جاهزيّته. ولو كان السبب الأساسيّ هو عدم النضوج أو الجاهزيّة، فالمشكلة هي في كلّ المواضيع التعليميّة أكثر من الطبّ، حيث إنّ 45% من الطلاب العرب الذين يتعلّمون مواضيع أخرى، عدا الطبّ، يغيّرون موضوع دراستهم بعد السنة الأولى، ويعود السبب الرئيس في ذلك إلى عدم التأهيل الكافي للطالب العربيّ في المرحلة الثانويّة نتيجة للتمييز الواضح من قبل وزارة المعارف.
من الواضح أنّ تصرّف الجامعات مناقض لأبسط القيم الديمقراطيّة وللقانون الإسرائيليّ والدوليّ، فقبل سنة سُنَّ، بمبادرة رفيقنا دوف حنين، قانونُ "حقوق الطالب"، وأصبح ساريَ المفعول في 1.9.2007. وقد وَرَدَ ضمن أهدافه ضرورةُ الحفاظ على المساواة في فرص متناوليّة التعليم العالي والحفاظ على مبدأ المساواة في فرص الدراسة العليا، وكذلك في القانون الدوليّ. وقد جاء في البند 13 (ب) (3) من الميثاق الدوليّ للحقوق الاقتصاديّة والاجتماعيّة والثقافيّة (1966) والمُصادَق عليه في إسرائيل (1991) ضرورةُ اتّباع مبدأ المساواة في متناوليّة الدراسة العليا. ومن الغريب أنّ إسرائيل التي تنافس كلابَ الأثر في اتّباع الغرب حذو النعل بالنعل، انبرت في إبداع طريقة "تحديد السنّ" وقد رفضته كلّ جامعات أوروبا.
* * *
نحن هنا إزاء قضيّة تمييز بامتياز، وهي تمسّ بأفضل طلاّبنا تحصيلاً، وتأثير هذا التمييز كارثيّ على مئات الطلبة، على شعبنا كلّه، إن لم نتصدَّ.
وفي هذه القضيّة العادلة اقتنعت إدارة جامعة بئر السبع، ونتيجة لملاحقة المحاضر د. رياض إغباريّة تمّ إقناع الجامعة بضرورة قبول الطالبات العربيّات من منطقة النقب من سنّ الثامنة عشرة، وهكذا جرى استيعاب عدد لا بأس به من الطالبات العربيّات، وتُشاطرنا الرأي وزيرةُ المعارف يولي تمير التي وصفت قرار الجامعات بالإشكاليّ، وقالت في مناسبة أخرى: "أخشى أن يكون سبب القرار هو التمييز ضدّ الطالب العربيّ". وكذلك رئيس لجنة المعارف البرلمانيّة ميخائيل ملكيئور الذي عبّر، في جلسة لجنة المعارف، عن عدم اقتناعه بقرار الجامعات. وكذلك رئيس نقابة الطلبة الجامعيّين سيلع بروش الذي بعث برسالة استنكار إلى إدارة جامعة تل أبيب، واعتبر القرار مميِّزًا ضدّ الطلبة العرب حصرًا. ونحن لا نستطيع أن نعتمد على "أخلاقيّة" بعض المسؤولين الحكوميّين الذين لا "يجعلون معها قليلاً من القُطران"، ولا سيّما أنّ وزيرة المعارف هي رئيسة مجلس التعليم العالي، وهي التي ينبغي أن تدير وتغيّر السياسات، وألاّ تكتفي بوضعيّة الحياد ووصف القرار بأنّه إشكالي وإلى هنا ينتهي دورها.
لذا، أمامنا تمييزٌ فاضح، وقضيّة ذات نتائج كارثيّة، وفي الوقت ذاته إنّ إمكانيّات خوض معركة منتصرة هي إمكانيّات كبيرة، لا سيّما أنّ إلى جانبنا قوى يهوديّة مؤمنة بعدالة هذه القضيّة- رغم محدوديّة جاهزيّة التحرّك لدى بعضهم-، والمطلوب منّا خوض نضال محدّد ومثابر في سبيل إلغاء هذا القرار الجائر.
تجدر الإشارة هُنا الى أنّ 300 طالب عربيّ يحصلون كلّ سنة على نتيجة 700 وما فوق في امتحان البسيخومتري، ولكن المُعطى المُذهل هو أنّ 265 منهم يتقدّمون بطلب لتعلّم الطبّ أي أكثر من 88%! مقابل 13% لدى الطلاب اليهود، وهي نسبة غير طبيعيّة أبدًا ويعود سببها الأساسيّ إلى انحسار قبول الطلاّب في القطاع العامّ، ما عدا الطب، وإلى المكانة الاجتماعيّة التي يحظى بها الطبيب في مجتمع لا يتمكّن أفراده من الحصول على الكثير من المراكز الاجتماعيّة للسبب ذاته، وهذه نسبة غير مفيدة لنا كمجتمع، حيث إنّ الطلاّب الأكثر نجابة في التحصيل العلميّ يتوجّهون للعمل في مجال مرهق يستغرق جلّ وقتهم، بينما نحن بحاجة إلى طلاّب بهذا المستوى ليتعلّموا، بالإضافة إلى الطبّ، في المجالات الاجتماعيّة والبحثيّة ليقدّموا أكثر لمجتمعهم، ولكن هذا لا يعني بالطبع أن نسمح بهذا الصدّ الشامل لأبناء الثامنة عشرة والتاسعة عشرة في جامعة تل أبيب والجامعة العبريّة في مجال الطبّ، وغيرهما من الجامعات في مجالات أخرى.
اقتراح عمليّ- تنظيم نضال المحاضرين، وغيرهم.
المستوى الجماهيريّ، صدرت ردود فعل متواضعة على هذه القرارات الجائرة في السنة السابقة ثمّ توقّفت، وفي هذه السنة توجّهت المحامية سوسن زهر من مركز "عدالة" الى المحكمة العليا.
لا نستطيع أن نجزم في شأن قرار المحكمة، وليس بالضرورة أن يكون قرار المحكمة هو الخطوة الأخيرة، حيث إنّ المحكمة غمطت حقّنا في الكثير من القضايا، وكثيرًا ما التفّت المؤسسات الرسميّة على قرارات المحكمة، حين أنصفتنا.
من الأهميّة بمكان دعوة كلّ المحاضرين العرب واليهود الديمقراطيّين، كي يطرحوا مسوّغاتهم حول القرار الجائر وتنظيم نضالهم بتقديم اعتراض مشترك لكلّ المحاضرين العرب، وإلى جانبهم المحاضرون اليهود الديمقراطيّون. هذا المطلب يشكّل إثباتًا مهنيًّا للتمييز ومطلبًا يصعب تجاهله من عاملين يوميًّا في المجال نفسه، كما يمكن استخدامه في المحاكم أيضًا كداعم لمطلب إلغاء القرار الجائر. وكذلك من المهمّ إشراك الطلبة الثانويّين في هذه المعركة مباشرة وبدعم من لجان أولياء الأمور، وقد تبيّن لي عَبْرَ زيارة المدارس أنّ هذه القضيّة من أكثر القضايا التي تؤرّقهم، وهم على استعداد تامّ للنضال ضدّ هذه القرارات التعسّفيّة.
وبطبيعة الحال تَكون جزءًا أساسيًّا من هذا الائتلاف لجنةُ متابعة التعليم والطلاب الجامعيون.
"تحديد السنّ" يزحف باتّجاه كلّ الجامعات، وهو يشمل الطبَّ والتمريضَ وسائرَ العلوم الطبيّة، وكذلك الخدمات الاجتماعيّة. وما يميّز هذه المواضيع أنّها قد تتيح لمن يدرسها مجالاً للعمل في القطاع الخاصّ الذي يعطي العرب متنفّسًا في ظلّ انحسار قبولهم في القطاع العامّ.
* * *
كلّنا نعلم أنّ طلبة الطبّ العرب يخوضون سباق القفز للوصول إلى الجامعة. ومن الحواجز الأساسيّة في هذا "السباق" المقابلاتُ التي تضيّق على الطالب العربيّ، ولكنّ قرار الجامعات بشأن تقييد السنّ ليس حاجزًا إضافيًّا قد يُقفَز عنه، بل هو جدارٌ مانعٌ لكلّ الطلبة العرب حتّى سنّ العشرين، وإحدى معاركنا اليوم يجب أن تتحدّد في إزالته.
أيمن عودة
السبت 24/5/2008