وقفة طلابية مشرفة. تسربلت بجلابيب الوعي والوطنية في شجاعتها اخترقوا السماوات في ظروف زرعوا الخنوع والريب. والسكوت على الضيم فوتت الفرصة على المارقين الخارجين على ارادة شعبهم والمتآمرين عليها . اماطوا اللثام ، وانتزعوا القناع عن وجوه تلك القلة المتسترة التي ارادت من الناصرة في محنة من محن الشعب الفلسطيني ان تحني هامتها امام الظالم المتغطرس ، وان ترتدي ثوب الذل والمهانة . فانتفض الطلاب وهزوا لهم خاصرتهم استهتارا وضربوا كفا بكف سخرية واستصغارا وغنوا هزي يا نواعم .
عاث جيشه في الضفة فسادا ، واثخن فيها الجراح ، واستنكف ، وهتك القيم والاعراض وقهر وتجبر ، ولما لم يجف بعد دم الشهيدتين الطالبتين منتهى عوض حوراني ابنة الـ 17 ربيعا من مدينة جنين التي سقطت وهي تؤدي واجبها الوطني بانخراطها في مظاهرة طلابية يوم السبت 74-11-16 واختها رباب عبد الكريم سلعوس ابنة الـ 16 ربيعا من مدينة نابلس في احدى المظاهرات التي انفجرت في المدينة . ولما لم يجف دم مئات الجرحى والمصابين من الطلاب الثانويين وتلاميذ الابتدائيات الذين غصت بهم المستشفيات في مدن الضفة الغربية الذين اصيبوا وتهشموا من رصاص وعصي الجنود الاسرائيليين . ولما لم يتوقف بعد انين الجرحى على الاسرّة وآهات الامهات وولولات الآباء ولما كان صدى صرخات الطالبتين الشهيدتين يتردد في الاودية وفي اجواء المدن والقرى الفلسطينية من جراء اشرس واعنف هجمة سلطوية وحشية نفذتها حكومة اسحاق رابين عندما هبت المظاهرات الطلابية واندلعت شرارتها يوم الاربعاء 74-11-13 تعبيرا عن فرحتهم والتمسك بقدسية قضيتهم بمناسبة يوم فلسطين في الامم المتحدة واشتعلت نيرانها واشتد سعيرها ، والتهب اوارها لتشمل كل مدارس مدن وقرى الضفة الغربية المحتلة، جن جنون السلطات فاهتزت مشاعر رئيس الحكومة رابين فامر جنوده بحصد الطلاب فامطرهوم بوابل من الرصاص فقتلوا من قتلوا وجرحوا من جرحوا . واقفلوا المدارس فاخمدوا نار الهبة وقمعوها بالحديد والنار . وفي خضم هذا التنكيل وفي غمرة هذه المحنة جيء برئيس الحكومة اسحاق رابين ليحل ضيفا على البلدية ثم على الناصرة من خلال طلابها الثانويين في المركز الثقافي البلدي ليدخلها ظافرا منتصرا في حين انتقده الاحرار وعابه الدمقراطيون من ذوي الضمائر الحية في اسرائيل وفي العالم على جرائمه البشعة وافعاله الخسيسة . فاسود وجهه ارادوا تتويجه وتبييض وجهه وتكريمه تكريم المنتصر بحفاوة عربية اصيلة بتمجيده وتبجيله ضيفا يقدمون له من القرى ما طاب ولذ ليرقص في حفل التكريم وعرس الانتصار على جراح ودماء الطلاب من مدارس الضفة الغربية ، لتنهال عليه مكارم العرب من كل حدب وصوب في استقبال مهيب لتقليده اكليلا من الغار والرياحين ومنحه شهادة شرف وحسن سلوك واخلاق، يتناسون ما اقترفته يد جنوده من بطش وتنكيل.
دخلوا وقد ملأهم العزم لاهثين يتوقدون حماسا ، يحملون في جعبتهم افكارا واقتراحات ترشح بان لن تمر الزيارة كما يريدها الاعيان "والعيون" والمخابرات . كوكبة من اعضاء الشبيبة الشيوعية ، سهيل ذياب سامي غطاس . اسعد بدر . جمال عطية . خالد عطية . فارس حكيم . جريس حكيم . وغيرهم ممن فاتتني الذاكرة فعذرا . عادوا من توزيع منشور اصدره الحزب الشيوعي يندد بالزيارة ويدعو رابين للذهاب الى جنيف الى طاولة المفاوضات من اجل السلام .
انطلقوا وراحوا في المدرسة الثانوية وانتشروا بين الطلاب وعملوا بهدوء وسرية وبنشاط النملة ، وفي حركة النحلة ، انتقلوا من زهرة صالحة الى اخرى كان الانتقال انتقائيا ، اثاروا الحمية عند اصحاب الحمية واججوا الغيرة في الذين عندهم الغيرة وشحنوهم بشحنات الشجاعة والجرأة وللخروج عن الصمت الرهيب وتعاقدوا وتعاهدوا ان لا خذلان اليوم .
سار موكب رئيس الحكومة وعلا غبار سيارات الموكب واصطف الاطفال الابرياء من على رصيف الشارع يلوحون باعلام الدولة وعلت هتافات الترحيب من حناجرهم الطرية الناعمة ، واصواتهم الرقيقة ، فانبهرت عيونه وغمرته الفرحة ، وتبسم للاطفال وتخيل نفسه انه الفارس المغوار ، استطاع ان يحقق مآربه فظل يسبح في تخيله حتى وصل الموكب الى دار البلدية حيث انطلقت عشرات الحناجر القوية تندد وتصرخ في وجهه لتقول له انت ضيف غير مرغوب بك اخرج من الناصرة واذهب الى جنيف فزاغت عيونه ، وانكمش قلبه وشحب وجهه وتشنجت اطرافه فهجمت الشرطة وانقضت على المتظاهرين واعتقلت من بينهم ثلاثة سامي غطاس اسعد بدر جمال عطية اعضاء في الشبيبة الشيوعية غاب عن الانظار ودخل دار البلدية ولتخفيف وطأة الصدمة ابلغوه هناك ان هذا شغب الشيوعيين فلا اهمية له فانت ضيف عزيز . رحب به رئيس اللجنة المعينة في دار البلدية واكرم وفادته.
ازفت ساعة اللقاء في المركز الثقافي البلدي فغصت القاعة بالطلاب اليهود والعرب من الناصرتين . وغزا المرافقون من رجال امن وحراسة ومخابرات بعشراتهم وبآلات التصوير القاعة واخذوا يلتقطون الصور لزرع الريب والخوف في نفوس الطلاب العرب ودخل رئيس الحكومة رابين دخول الفارس المنتصر ، بجاهه وجبروته ، بجلّه وجلاله ، يختال ويتبختر كالطاووس نافشا ريشه وهو الذي قهر بالامس اترابهم وبني جلدتهم واخوانهم في الضفة المحتلة واراد لنفسه ان يصول ويجول في محاضرته فباغته الطلاب فانطلقت الصيحات تندد وتشجب وتابع محاضرته وسط المقاطعات التي تتالت وتواصلت فامطروه بوابل من الاسئلة بجسارة وشجاعة رغم التقاط الصور لكل سائل من الطلاب ، فتصبب العرق من جبينه وبلل ملابسه فاكفهر وجهه وقطب جبينه .
تركزت اكثرية اسئلة الطلاب العرب حول المفاوضات مع منظمة التحرير الفلسطينية حول حق الشعب العربي الفلسطيني والانسحاب من جميع المناطق المحتلة وعندما تكلم عن السلام قاطعه الطلاب وقالوا له انتم دائما المعتدون ، والسلام الحقيقي في تنفيذ قراري 338 ، 242 والسلام في جنيف وليس في ساحة الحرب او في الناصرة. صفق الجميع للذين يطرحون الاسئلة فأحرج رئيس الحكومة وتلعثم وتوقف عن الكلام برهة من الزمن ثم تابع كلامه مستفزا عشرات الطلاب العرب فقال : عليكم ان تعلموا لو كنتم في سوريا وتحدثتم هكذا مع رئيس حكومة عربية لكنتم عرضة لحبل المشنقة . وهنا تسمح لكم الدمقراطية ان تتحدثوا مع رئيس الحكومة . ثم اردف قائلا نحن لا نجلس مع من ثبت خلال 27 سنة انهم مخربون فثارت الضجة وانفجر الغضب وترددت الهتافات فاقترح احدهم ان يزفوا رئيس الحكومة في هذا العرس الذي يليق به واقترح ان يغنوا هزي يا نواعم فاخذ الطلاب يغنون اغنية هزي يا نواعم حتى قطع محاضرته واضطر ان يغادر القاعة خائبا فاشلا في تحقيق ما كان يصبو اليه فخرج بائسا تعيسا . وهكذا دخلت اغنية هزي يا نواعم التاريخ ودخلت القاموس السياسي وجرت الرياح بما لا تشتهي سفينة رابين وعاد بخفي حنين وقد قلدوه اكليلا من الخزي والعار .
وفي اليوم الثاني ايضا كان صراخ الصحف على ما حدث على قدر الوجع وكتبوا ان الطلاب العرب اساءوا بتصرفهم لرئيس الحكومة ولم يستقبلوه ضيفا مكرما وتنازلوا عن تقاليدهم العربية باكرام الضيف والاحتفاء به
و في اليوم الثاني طرد نائب مدير المدرسة الثانوية الطالبين احمد نجم ، وجرير خوري انتقاما لشجاعتهما وجرأتهما في المساهمة في طرح الاسئلة كما حوكم فيما بعد جمال عطية على مشاركته في المظاهرة امام البلدية فحكم عليه ثلاثة اشهر سجن مع وقف التنفيذ وغرامة مالية مئة ليرة وتظل الناصرة ابيّة وقلب الجماهير العربية النابض ويظل الحزب الشيوعي بمؤسساته الرائد والقائد في صنع المعجزات.
عمر سعدي *
الخميس 22/5/2008