"كنا على أحر من الجمر قلقين لما قد يجري في الناصرة، وكلما مر الوقت ازداد قلقنا واشتدت المرارة في نفوسنا. وفجأة بدأت طلائع المعتقلين تتدفق وتنضم الينا في السجن، عندها انشرحت صدورنا.. اذ شعب الناصرة لم يترك الشيوعيين وحدهم في المعركة.. الناصرة لم تخنع بل نزلت الى الشارع".
هذا كان حديث احد معتقلي لجنة اول ايار في سجن الجلمة.
*خلفية احداث الانتفاضة
كنت صديقا للحزب الشيوعي في ذلك الحين، اذ لم اكن قد حصلت على شرف عضويته بعد. كنت وشلة من الاصحاب نرى في نضال الحزب اليومي وتحدي رفاقه لسياسة البطش السلطوية متنفسا للكبت والاحتقان الذي كان يربض على صدورنا. واقولها باعتزاز ان نضالات الشيوعيين بما فيها الاجتماعات الشعبية والمهرجانات الشعرية ومظاهرات الاول من ايار كل سنة كانت تخرجنا من قوقعة الضياع، وكانت توقظ فينا شعلة الكرامة والعزة الوطنية.
* حكاية الانتفاضة
السلطة كانت تعرف ان الشيوعيين كانوا رأس الحربة في مواجهة مخططاتها لتدجين جماهيرنا، كما ان افشال الشيوعيين والوطنيين لاحتفالات استقلال الدولة التي فرضت على الناصرة والتي سبقت الاول من ايار ببضعة ايام دفعت الشرطة لمطاردة الشيوعيين واعتقالهم. كما اعتقلت اعضاء لجنة اول ايار المكوّنة من شيوعيين ووطنيين، وقامت بنفيهم الى مدينة صفد ثم نقلتهم الى سجن الجلمة واصدرت امرا بمنع الشيوعيين وجماهير الناصرة من التظاهر في الاول من ايار 1958 كما صادرت مكبرات الصوت من مقر الحزب.
الجو كان مشحونا بالتوتر منذ ساعات المساء الذي سبق الاول من ايار فسيارات الشرطة مكتظة برجالها تجوب شوارع المدينة وتدهم البيوت بحثا عن الشيوعيين لاعتقالهم.
هذا الجو الارهابي لم يمنع مئات الشباب من الانتشار في شوارع الناصرة منذ الساعات الاولى من صبيحة الاول من ايار. انتشروا في المقاهي وعلى الارصفة وامام ساحة عين العذراء وفي ساحة الكراجات يترقبون الاحداث.
امام هذا الوضع قامت مظاهرتان واحدة في ساحة الكراجات وقد قادها الرفيق توفيق طوبي والثانية في ساحة العين وقادها الرفيق اميل حبيبي.. ارتفعت الهتافات ضد الشرطة وبطشها وضد الحكم العسكري، لكن الشرطة التي كانت تتواجد في هذه الاماكن بكثافة قامت بمهاجمة المتظاهرين بهراواتها، فكان رد الجماهير رجم رجال الشرطة بالحجارة.
* احداث عين العذراء
مرت فترة من الهدوء والترقب وقد عادت اسراب الشباب للتجمع في ساحة العين من جديد. في هذه الاثناء بدأت مظاهرة الهستدروت بقيادة حزب المباي. (لقد جرت العادة ان حزبي السلطة المباي والمبام، كان كل منهما ينظم مظاهرة في الناصرة في الاول من ايار من كل سنة. كانوا يجلبون المتظاهرين من الكيبوتسات والمستوطنات المجاورة للمدينة). مرت مظاهرة الهستدروت بسرعة امام عين العذراء تحرسها قوات الشرطة التي انتشرت على امتداد الشارع الرئيسي.
بعدها بدأت مظاهرة حزب المبام، وما ان اقتربت من ساحة العين وإذا بأحد المتظاهرين يصرخ من خلال مكبر الصوت المثبت على احدى السيارات: "فليسقط الحزب الشيوعي، فليسقط اميل حبيبي".
لم يكد هذا الوقح ينهي صراخه واذ بالحجارة تنصب على السيارة والمتظاهرين من كل حدب وصوب. وعادت صورة بطش الشرطة من جديد. مظاهرة المبام تبعثرت وقاذفو الحجارة تفرقوا نحو الازقة ثم عادوا ليتجمعوا امام مقهى جرجورة ومقهى بولس وفي محيط الكنيسة. كان افراد الشرطة يمرون بسياراتهم وهم يقرعون بهراواتهم على تروسهم استفزازا وارهابا.
الا ان استفزازهم زاد من تجمهر الشباب مما دفع احد ضباط الشرطة الى التقدم محاطا بثلة من عسكره نحو المتجمهرين امام مقهى جرجورة آمرا اياهم بالتفرق، الا ان احدا لم يتحرك من مكانه، لقد كان ردهم نظرات الغضب والتحدي.
استشاط الضابط غضبا وكرر اوامره بالتفرق لكن احدا لم يتفرق. عندها انهالت هراوات الشرطة تبطش بكل من تطاله. الدفاع بالايدي لصد الهراوات لم يصمد طويلا، فقد اصيب البعض واعتقل البعض الآخر وتفرق الباقون نحو الازقة. وخلال دقائق معدودة بدأت حرب الحجارة التي اخذت تنهمر على رجال الشرطة وعلى سياراتهم من خلال الازقة ومن على اسوار الكنيسة ومن خلف اسوار المقبرة القريبة من الكنيسة. وجدير بالذكر لمن لا يعرف المنطقة فان مجريات الاحداث كانت تبعد حوالي مئة وخمسين مترا فقط من مركز الشرطة.
* الحجارة تصنع النصر
حي الشوفاني قائم على سفح جبل شديد الانحدار طرقه ملتوية مرصوفة بالادراج، ومن حظ المتظاهرين ان الوادي في وسط الشارع كان محفورا من اجل مد خط مجار، ولذلك فان ذخائر الحجارة كانت وفيرة ومن جميع الاشكال والاحجام. المعركة بين الشرطة والمتظاهرين كانت بين كرّ وفر الشرطة تحاصر وتتقدم وهم يتراجعون. التراجع بدأ من ساحة العين الى منطقة المقاهي الى ساحة الكنيسة والمقبرة والازقة واخيرا الى مركز التجمع الرئيسي.. المعقل الاخير عند مدخل الحي في اسفل الجبل، امام دار الدبيني والبجالي حيث ان الادراج تمنع سيارات الشرطة من التقدم. لكن الشرطة اصرت على ما يبدو ملاحقة المتظاهرين وقاذفي الحجارة حتى معقلهم الاخير. وما هي الا دقائق واذ بسيارات الشرطة تدهم الحي حيث وصلت الى الساحة مقابل دار الخوري سليم الزريني.. رحمه الله. واخذ افراد الشرطة يترجلون من سياراتهم وفي نيتهم تسلق الادراج وملاحقة الشباب. وكانت المفاجأة فقد انهمرت عليهم الحجارة امواجا بعد امواج لا تنقطع وكأنها الكاتيوشا بعينها.
لم يستطع افراد الشرطة من التقدم خطوة واحدة، بل لم يستطيعوا اخراج رؤوسهم من خلف التروس التي لم تعد تصمد امام رجم الحجارة فراحوا يختبئون خلف سياراتهم. وكان السؤال المحير لماذا لم ينسحبوا اذ لم يكن بيدهم حيلة امام هذا الكم الهائل من الحجارة كما لم يكن بحوزتهم قنابل غاز ولم يكونوا مجهزين بالبنادق. اذًا ماذا كانوا يبيّتون. وفجأة سمعنا صيحات بعض النسوة من البيوت المرتفعة "الشرطة تطوقكم" وكان ان انسل رجال الشرطة من زقاق ضيق ما بين دار العديني ودار شحادة وراحوا يتسلقون الادراج التي كانت تؤدي الى زقاق اوسع عند دار شومر وصليبا اذ من خلاله يستطيعون ان يصلوا الى موقع اعلى من المتظاهرين وبذلك يمكنهم الانقضاض اذ يصبح المتظاهرون بين فكي الكماشة.
لكن خطتهم لم تتحقق فقد سبقهم الشباب والفتية والاولاد اذ اعتلوا حاكورة دار سكران التي تطل مباشرة على مخرج الزقاق. وكان ما ان اطل رجال الشرطة برؤوسهم حاملين هراواتهم وتروسهم حتى انصبت عليهم الحجارة. لم يكونوا متوقعين لهذه المفاجأة فراحوا يتدافعون هربا والحجارة تلاحقهم. كذلك سيارات الشرطة التي كانت تطوق مدخل الحي فقد لفت اذيالها وانسحبت.
وما ان كادت تنسحب حتى انفجرت حناجر الشباب والفتية بالهتاف والاناشيد الوطنية خاصة بعد ان اخذت تصل اخبار المواجهات من الاحياء الاخرى وانباء الانتفاضة في مدينة ام الفحم الشقيقة. على الرغم من ان هذه الانتفاضة كلفت ثمنا باهظا.. مئات المعتقلين، عشرات الجرحى، احكاما بالسجن، فصلا من العمل، الا ان المكسب الاهم والاثمن كان تعزيز روح الكرامة والعزة الوطنية... روح الوحدة... وحدة اهل الناصرة جميعا التي اتمنى ان تعود وتتوثق كما كانت عليه يوم الاول من ايار 1958.
جورج غريب *
الأربعاء 21/5/2008