خضم حملة الانتخابات التمهيدية للحزب الديمقراطي في ولاية أوهايو، تحديدا في 25 فبراير/شباط 2008 لاحظ السيناتور باراك أوباما خلال نقاش مغلق مع مجموعة من الناخبين في مدينة كليفلاند أن دعم إسرائيل لا يعني دعم حزب الليكود، ولم يجلب ذلك اهتمام وسائل الإعلام الأميركية الرئيسية بالقدر الذي جلب به اهتمام الصحف الإسرائيلية.
كان ذلك بعد يوم من تصويت غالبية من الأميركيين المقيمين في إسرائيل لمصلحة السيناتور هيلاري كلينتون، وقد بدا ذلك مؤشرا على ميل الناخبين اليهود من الحزب الديمقراطي لكفة هيلاري على حساب أوباما.
مشاكل أوباما مع "الصوت اليهودي" رافقته منذ بداية التصويت، خاصة على خلفية علاقته أيام كان نائبا في ولاية شيكاغو بزعيم "أمة الإسلام" لويس فرخان، ثم في خضم الحملة الانتخابية الجارية على وقع شائعات بأن أوباما "مسلم متخف".
وكان ذلك كافيا ليخسر أوباما أصوات يهود ولايات فلوريدا ونيويورك ونيوجيرسي وماريلاند بفارق رقمين أمام هيلاري.
ولا يبدو أن هذا التأخر سيتقلص خاصة إزاء الأزمة الأخيرة التي تركزت فيها الأنظار على علاقة أوباما بأبيه الروحي في شيكاغو القس جيريميه رايت الذي دأب على انتقاد الممارسات الإسرائيلية على أنها "إرهاب دولة".
هذه الأرقام لافتة للانتباه، خاصة أنه منذ أقل من عام لم يكن هناك ما يشير إلى وجود دواع تفرق بين المرشحين أوباما وكلينتون لدى الناخب الأميركي على مستوى رؤاهما في السياسة الخارجية، مما قلص الآمال في تبني أوباما -الذي عارض بوضوح وانتظام الحرب على العراق عكس هيلاري- سياسة خارجية مختلفة بشكل أساسي عن سياسة منافسته الأولى.
وقد بدا أن الجميع يتبنى فريقا شابا وضعيف الخبرة في السياسة الخارجية يعمل تحت نصح وإشراف السفير ريتشارد هولبروك الذي يحمل ميراث ما يمكن تسميته بـ"الواقعية التقليدية" في أوساط السياسة الخارجية للحزب الديمقراطي.
غير أنه لم يكن من الممكن أن نعرف منذ ذلك الوقت المبكر مآل رؤى أي منهما خاصة في ظل نمو تيار جديد داخل الحزب منذ سنة 2004 تبنى تسمية "الواقعيين الجدد" كان يبدو رد فعل على تيار "المحافظين الجدد".
وبمعزل عن التقلبات المثيرة لأصوات الناخبين فإنه لا يبدو من غير الواقعية في الظرف الراهن، وبعكس هذا الوقت من العام الماضي، أن نتحدث عن فرضية "الرئيس" أوباما خاصة من الناحية الحسابية البحتة حسب استطلاعات الرأي الحالية.
ومن ثمة أصبح التساؤل عن ملامح سياسته الخارجية موضوعا بالغ الجدية: كيف تبدو هذه الملامح إذن وفقا للمعطيات الراهنة؟
* فريق أوباما للسياسة الخارجية
مع نهاية صيف وبداية خريف 2007 تغير الكثير من المعطيات في الصراع الانتخابي داخل الحزب الديمقراطي.
فبعدما كانت هيلاري كلينتون تتفوق بفارق عريض عن أقرب منافسيها باراك أوباما وجون إدواردز بدأت الموازين تتعدل بسرعة، واقترب أوباما بصمت وبقوة في حملته الانتخابية التي اعتمدت على المتطوعين وتبرعات المبالغ الصغيرة، مما ميزه عن كلينتون التي واصلت تقليد الاعتماد على المساهمات المالية القادمة من مساهمين كبار.
وهذا الزخم الانتخابي يبدو الخلفية التي منحته الثقة للمضي قدما في تشكيل فريقه الخاص للسياسة الخارجية.
وقد نشرت صحيفة واشنطن بوست في تقرير بتاريخ 2 أكتوبر/تشرين الأول 2007 معطيات عن تشكل واضح لفريقين مختلفين لدى كلينتون وأوباما.
كان توجه هيلاري، مثلما هو متوقع، ضم وجوه عملت تقليديا في إدارة الرئيس كلينتون، وشكلت رموز سياسته الخارجية وهو ما يشمل على وجه الخصوص مادلين أولبرايت وصامويل بيرغر وريتشارد هولبروك، بالإضافة لوجوه سطع نجمها في السنوات الأخيرة، رغم قدمها في الساحة السياسية، بوصفها محافظة على المدرسة "الواقعية التقليدية" ومن بين هؤلاء كان ليسلي غيلب أبرز الأسماء التي ضمتها قائمة واشنطن بوست.
مقابل ذلك كانت اختيارات أوباما تشير إلى توجهات مختلفة، ورغم أن قائمة فريقه للسياسة الخارجية ضمت وجوها عملت سابقا في إدارة الرئيس كلينتون فإنها كانت من الوجوه التي عُرفت بتصادمها مع سياسات الإدارة آنذاك وسجلت في أوقات لاحقة نزاهة سياسية لافتة.
غير أن أكثر ما يلفت الانتباه في قائمة أوباما هو اختياره مستشاره الرئيسي في السياسة الخارجية زبغنيو بريجنسكي الذي برز في السنوات الأخيرة كصوت بالغ الحيوية، بالرغم من أنه وجه تقليدي في أوساط خبراء السياسة الخارجية في واشنطن منذ كان "مستشار الأمن القومي" للرئيس جيمي كارتر.
ومعروف عن بريجنسكي توجهه مع الرئيس كارتر أكثر فأكثر نحو صف "الواقعيين الجدد" الذي ينادي بإعادة تقييم العلاقات الأميركية الإسرائيلية والدفع في اتجاه حسم الملف الفلسطيني على قاعدة الضغط على إسرائيل مقابل فتح قنوات الحوار المباشر مع الأطراف الفلسطينية التي تشغل صدارة قائمة وزارة الخارجية الأميركية "السوداء" خاصة حركة حماس.
بريجنسكي برز أيضا مدافعا عن سياسة الحوار والتفاوض المباشر مع إيران وسوريا وبقية حلفائهما في المنطقة بما في ذلك "حزب الله".
ورغم تأخر علاقة أوباما المباشرة مع بريجنسكي حتى خريف 2007 فإنه لا تمكن المفاجأة بها من حيث مضمون أفكار كليهما، إذ يبدو العنوان الرئيسي الذي رافق حملة أوباما في ملف السياسة الخارجية أي "ضرورة التفاوض مع الأعداء لا الأصدقاء" صدى مباشرا لمقولات بريجنسكي.
غير أن قائمة أوباما ضمت أسماء أخرى لا تقل أهمية رغم صيتها غير الذائع، مما جعل بعض التحاليل المعمقة التي قدمتها أصوات مؤثرة لدى "الناخب اليهودي" خلال الأشهر التي تلت خريف 2007، تصل إلى استنتاج مفاده أن نوايا أوباما الخارجية تمثل انقلابا على العلاقة التقليدية التي تربط الولايات المتحدة بإسرائيل.
* أوباما "معاد" لإسرائيل؟
كتبت أوساط مقربة من تيار المحافظين الجدد واللوبي الإسرائيلي على السواء سلسلة من المقالات حول تقييم السياسة الخارجية المتوقعة من قبل فريق أوباما، ومن أهم هذه المقالات تلك التي حررها إيد لاسكي محرر الشؤون السياسية لنشرية "أميركان ثينكر".
أولها مقال مبكر بعنوان "باراك أوباما وإسرائيل" يرجع 22 مارس/آذار 2007، يعرض فيه المؤشرات التي يجب حسب رأيه أن تجعل "المدافعين عن التحالف الأميركي الإسرائيلي يتوقفون للتأمل"، وتركزت ملاحظات لاسكي حول علاقات أوباما خاصة في مقر إقامته بمدينة شيكاغو وليس على مواقفه المعلنة.
وهكذا أشار لاسكي من بين المعلقين الأول إلى مواقف "المرشد الروحي" لأوباما القس جيريميه رايت، وكذلك إلى "أصدقاء أوباما المعادين لإسرائيل" في شيكاغو مثل الناشط علي أبو نيمة.
وقدم لاسكي في هذا الإطار سلسلة من التأويلات بناء على حضور أوباما وزوجته محاضرة في شيكاغو لإدوارد سعيد والتقاط صورة مشتركة لهما.
لكن بقية ملاحظات لاسكي حول مواقف أوباما المعلنة كانت في اتجاه المزايدة من خلال التشكيك غير المبرر في آرائه التي تدعم بشكل واضح "الحلف الأميركي الإسرائيلي"، بما في ذلك ما جاء في خطاب له أمام "اللوبي الإسرائيلي" ممثلا في منظمة "إيباك". لهذا كان مفهوما لماذا مرت انتقادات لاسكي في صمت آنذاك.
غير أن لاسكي راجع مقاله الصادر في ربيع 2007 في سلسلة من المقالات الجديدة في الأشهر الأخيرة، 16 يناير/كانون الثاني و19 فبراير/شباط في نفس النشرية.
كما كتب في نفس الاتجاه نوح بولاك في النشرية الأهم للمحافظين الجدد "كومنتاري" في نفس الفترة تقريبا 26 يناير/كانون الثاني 2008، فيما يبدو أنه حملة متوازية مع انطلاق الانتخابات التمهيدية للحزب الديمقراطي.
ومن الواضح أن من أهم العوامل التي جعلت تحاليل لاسكي المبكرة ذات قيمة في شتاء 2008 قائمة فريق السياسة الخارجية لأوباما المعلنة في خريف 2007 والتي يبدو أنها دفعت الأطراف المؤثرة على "الصوت اليهودي" لحسم موقفها بشكل نهائي نحو مناصبة أوباما العداء.
وهكذا بالإضافة إلى بريجنسكي كان من بين الأسماء التي "تدفع إلى الريبة" و"الخوف"، حسب لاسكي وبولاك، سوزان رايس التي سبق أن عملت مستشارة لدى المرشح السابق للانتخابات الرئاسية جون كيري، والتي تعرضت لانتقادات عنيفة من قبل أنصار "الحلف الأميركي الإسرائيلي" لمجرد أنها اقترحت تنصيب كل من جيمس بيكر وجيمي كارتر وسيطين أميركيين مكلفين بالإشراف على المفاوضات الفلسطينية الإسرائيلية، وتم وصفهما حينذاك بأنهما "أشرس أعداء إسرائيل".
من بين الأسماء الأخرى روبرت مالي كبير المحللين حاليا في مجموعة "الأزمات الدولية" والمستشار السابق للرئيس كلينتون، الذي تميز برواية مغايرة للمفاوضات بين عرفات وباراك تحمل الطرف الإسرائيلي مسؤولية فشل المفاوضات في آخر عهد الرئيس كلينتون، وهو يُصنف من قبل لاسكي وبولاك طبعا على أنه "عدو" لإسرائيل.
يتم التركيز كذلك، خاصة من قبل بولاك، على اسم آخر أساسي من فريق أوباما هو سامنتا باور الأكاديمية المختصة في حقوق الإنسان من جامعة هارفارد، التي تدافع بحماسة عن وجهات نظر زميليها في جامعتي هارفارد وشيكاغو ميرشايمر ووالت التي تدعو إلى مراجعة العلاقات الأميركية الإسرائيلية من خلال التوقف عن خدمة مصالح "اللوبي الإسرائيلي" في تقرير السياسة الخارجية الأميركية، وهو الأمر الذي يشكل حجر الزاوية في رؤى تيار "الواقعيين الجدد".
إن النفوذ القوي الذي يتمتع به تيار "الواقعيين الجدد" في فريق أوباما مسألة لم تعد غامضة، وهو مؤشر قوي على تعاظم نفوذ هذا التيار في أوساط السياسة الخارجية الأميركية في رد فعل واضح على فشل سياسات "المحافظين الجدد".
ومن هذه الزاوية من الطبيعي صدور رد فعل عنيف من قبل أوساط "اللوبي الإسرائيلي" المناصر بشكل قوي لصف "المحافظين الجدد" في السنوات الأخيرة، مثلما كان الحال في موازين السياسة الداخلية الإسرائيلية حين أصبح الصراع بين أطراف "متطرفة" وأخرى "أكثر تطرفا".
وأصبح موقف "اللوبي الإسرائيلي" في الولايات المتحدة المزايد حتى على بعض المواقف الإسرائيلية بارزا للعيان منذ أواسط التسعينيات، مما يصدم حتى بعض الأطراف الإسرائيلية كما يستنتج من تحاليل صحف مثل هآرتس.
وفي هذا الإطار تحديدا يجب وضع الاتهام الموجه لأوباما -من خلال اتهام مستشاريه- بأنه "معاد" لإسرائيل، إذ يبدو ذلك مفهوما عندما يصدر من محللين مقربين من "المحافظين الجدد" مثل لاسكي وبولاك.
من المبالغة وصف تيار "الواقعيين الجدد" بمعاداة إسرائيل، إذ يوجد كثير من البنى الاقتصادية والسياسية التي تمنع توجهات مماثلة من بلوغ أي نفوذ سياسي في الظرفية الراهنة للولايات المتحدة.
وقد أظهر أوباما من الذكاء والفطنة ما يشير إلى أنه يعرف جيدا كيف لا يتعدى "الخطوط الحمر" وكيف يحقق التوازنات المطلوبة، لكن من الصحيح أيضا أنه خلف الشعارات المطمئنة بـ"دعم إسرائيل" تبدو "الواقعية الجديدة" في حال مراجعة جدية للدعم التقليدي وغير المشروط للسياسات الإسرائيلية. وهذا، بدون شك، أمر يستدعي الانتباه.
* كاتب تونسي (المصدر: الجزيرة)
الأثنين 19/5/2008