جبال الريح (24)محمد نفاع
إضراب للعمال تبيّن ان للعمال الموسميين مثلنا حقوقا، وكلها مهضومة، عقدتُ اجتماعا للعمال، العشرات، والشهر شهر آذار، والطقس رائع، والنهارات طويلة، وهناك طلبيات مستعجلة من البرتقال للتصدير، وفي محل التصنيف والتعبئة ينتظرون وقررنا الاضراب. البعض تردد، وعارض، فاليوم ملائم جدا للعمل، خاصة من العمال ذوي العائلات والاولاد، جُنّ جنون المسؤولين، وعُقد اجتماع على الواقف تحت الشجر، والمطالب كثيرة: تقليل المقطوعية – النورما – من خمسين صندوقا الى اربعين، دفع بدل ملابس العمل، دفع مقابل الإذن، والاعياد، توفير مياه ساخنة في الحمامات، تقليم الشجر العالي... وإلا فالاضراب مستمر. قبل ايام، في الثاني عشر من كانون ثاني العام الجديد، الرياح الجامحة المجنونة، ترشق النوافذ المغلقة بحبات وافرة مزعوبة غاضبة من المطر، والبرد اللاسع يتسلل من تحت المدخل، ورق السنديان يتعرض لصفعات شرسة بطرطشة كزوبعة الغبار، الساعة بحدود العاشرة صباحا، ونحن مع الجيران في يوم العطلة هذا نتناول وجبة الصباح من القهوة، والنار في الوجاق تطلق هبات خفاقة وتلتهم قُرَم الحطب، رنّ الهاتف بنشاط: - صباح الخير يا رفيق... أنا فادي بشارة حكيم من الناصرة... قرأت بالأمس لجدتي ما كتبته عن دار جدي أبو فوزي، جدتي مَريه عمرها 94 سنة تأثرت وتذكرت تلك الأيام البعيدة السعيدة وتدعوك لأطيب أكلة مدفونِة... ابتهجت لهذه المكالمة، من جيل جديد، من خَلف لسلَف من رفيق وصديق، وتسللت الذكريات الى تلك الايام، سألبي الدعوة، كلا، ليس فقط من اجل المدفونة رغم مكانتها، لإنعاش الذاكرة وتمتين التواصل، سأحمل معي كم من صَفْطة من ورق العنب القرقشاني وقرطلة من هذا العنب الأسود البلدي، تماما كأيام زمان. السنة الماضية كانت سنة محل، ضُرب العنب والكرز والتين والزيتون، والفلاحون الأذكياء المجربون يقولون: اللّي بِميتُه آذار ما بحييه نيسان، كان آذار الماضي ناشفا، وليس فقط آذار بل ما قبله ايضا، أما أشهر ايار وحزيران فكانت ماطرة، تشوّه منظر الدوالي، الورق مضروب متعفن والقطوف مريضة مهلهلة، والتين، الغزالي والبياضي والبقراطي رخو كالح.. لأن الباري سبحانه في ملكه يطعم على جمر ويحرم على نهر، هذا الموسم موسم خير، جرت الوديان، طلع النبع، بَجّت العيون، فاضت البُرك، واسرائيل تسرق مياه سوريا ولبنان وتتباكى على بحيرة طبريا التي لا تشبع، كالمقص بُقرط ما بُسْرُط، كانون فحل الشتا، وكأنهم لا ينقلون المياه المسروقة الى النقب فقد انشدوا: في أرجاء النقب، نسقي ونروي كل كدفة، ما عدا العراقيب وأخواتها لأنها تقف حجر عثرة في تطوير وإحياء النقب، وكذلك بلدات الجليل، حجارة العثرات في كل مكان، ورئيس الاركان السابق اعاد غزة الى العصر الحجري، ولنعد الى تسلسل الأحداث بعد هذه المستجدات. في الجامعة، تصادقنا، عبد اللطيف ناصر من الطيرة وأنا، نمتُ هناك، لأول مرة أسمع اسماء فاختة وخاتمة، اسماء صبايا، وجدت اشاعة تقول ان الذين ارتكبوا مجزرة كفر قاسم هم من الدروز!! وكأن ما قيل لا يكفي، وكأن ما عُمل لا يكفي!! المهم إلزق الطينة في الحيط ان ما لزّقت بتعلّم، وظل الحُق ناقص بُق، والشحطة ورا الدب، وحاوِل ألا تكون دُبا، نام عندنا عبد اللطيف اسبوعا، وتعرف عليه الكثير من الأهل، طالب جامعة ومن طيرة المثلث!! بعدها انتقل عبد اللطيف الى الناصرة وتوفي وسميت مكتبة على اسمه، واحتراما لذكراه نهبتُ كتاب "المفتش العام"، وكم أعود لقراءة هذه المسرحية وقصص المعطف والأنف لغوغول. في الطيرة تعرفت على الصديق مصطفى بشارة وأنا أعمل في قطف الحمضيات في – جان حاييم – قرب مستوطنة – سْدي باربورغ، من هناك نشتري الطعام خاصة الدجاج من عند الشقيقات حانا وراحيل وعليزا، حلوات ولطيفات، وجه حانا مدوّر ووجه عليزا أسيل، وراحيل بين بين، هو المعدّل، كنا انا وسعيد وكامل نذهب من البيارة الى الطيرة مشيا على الأقدام، نحضر محاضرات في نادي الحزب في بيت مصطفى بشارة، هناك تعرفت على عثمان أبو راس وغازي شبيطة وعبد الحميد أبو عيطة، اما أبو العفو الحصري وابرهيم بيادسة وأبو اصبع فمعرفتي بهم أقدم عندما نفاهم الحكم العسكري الى بلدنا. كان فتحي العامل من الطيبة يحضر لي جريدة الاتحاد والجديد والغد الى البيارة، ونحن اكثر من عشرين عاملا من القرية مع عدد من العمال اليهود، من العراق وسوريا واليمن وليبيا، هجّرتهم النُظم العربية الى هنا مساهمة منها في معركتها لتحرير فلسطين، أذكر منهم نجار، شلومو، كرواني، آشِر، حيّون، موشي.. سْعَيّد، او آشِر آخر.. كان المسؤولون عَنا من السكناج أوري، بن زيف، أبشتاين، أما زاكس فهو من اصحاب البيارة التي تبلغ مساحتها الف دونم، بالاضافة الى قطعة اخرى اسمها التسعين لأن مساحتها 90 دونما، دار زاكس في وسط البيارة، ايام السبت كنا نذهب نتلصْلص عبر السياج على ابنه الشاب وصديقته وهما يتقلّبان في اوضاع شهية، شهية جدا فيها ابداع، أيد وأرجل وأفخاذ وبطون ولحم يتقلّب على بعضه البعض. شلومو مُحب كبير للراب مئير صاحب العجائب، يحدث كرواني المسكين طيلة النهار عن هذا الراب سألته مرة: قل لي شلومو، أي عجائب كانت لهذا الراب!! - هُوهوه!! هي كثيرة، كيف احصيها لك!! - قل واحدة فقط!! لم يعرف شلومو ولا واحدة، فما كان من المسؤول أوري ابن مدينة كفار سابا إلا ان صرخ به: - هذا نفاع الشيوعي يسألك وأنت لا تعرف شيئا، أسكت وسكّر فمك، أوري متدين، لكننا نمزح معا، اليمنيون يحبون البهارات والفلفل الحرّاق، في البيارة زرعوا انواعا منها، فهم عمال دائمون، اما لماذا قلعنا هذه النباتات الرائعة، فالأمر غير معروف!! لهؤلاء العمال الزملاء الفقراء مثلنا. "خياط" عامل قصير جدا، يدمله العشب الطويل، يضحك على هؤلاء المتدينين وهو شيوعي ايضا. قمنا بالكثير من اعمال الشيطنة، بعضها لا يسجل على الورق، عندما يكون دور خالي يوسف للذهاب الى الدكان كان يسأل حانا: هل لك بَيض!! وهي تهب: يقولون هل عندكم بيض وليس هل لكِ بيض، هل لي بيض!! أف. يقول لراحيل: أعطيني دجاجة ناصحة وبيضا مثل جْريكي!! لم يخطئ في هذا التشبيه، كراعينها بيض وناصحات وطيبات. أوصيه على دخان دوبك عشرة، فإذا لم يجد يروح يتنازل: دوبك تسعة، ثمانية، سبعة... اما أوقح وأحطّ عمل قمت به، عندما جاءت الى الدكان، فتاة، شلفوحة في اول عمرها، على دراجة، يبدو انها اغتسلت، شعرها ناعم مبلول، ملابسها نظيفة، وهي يانعة طرية، فما كان مني الا ان وضعت رجلي امام عجل الدراجة، وقعت البنت على بقعة رملية غبرة جدا، قامت على مهلها ملطخة بالغبار، وجهها وشعرها وملابسها وتطلعت إلي: شكرا على هذا الذوق، وعلى هذه الثقافة والتربية، في أي جامعة تعلمت هذا السلوك، وهل هناك كثيرون مثلك، بنت بعثها اهلها لشراء حاجيات البيت، وأنت بهذا المستوى من الاخلاق... كل الاحترام، مثقف. وأنا واقف في وضع استعداد ذليل لتقبّل هذه الصفعات من التأديب، على الأقل لو تشتم، لو تسب وتضرب!! جسمي يُنمل وهو يتلقى هذا السيل الهادئ العميق من الكلمات التي ترمي اللقمة من الفم، كلمات وارمة... لأربعة مواسم كلما التقينا اُدنكِس في الارض وتركبني عواميد الشدّة، وهي تنظر إلي بقرف واحتقار، ولليوم أخجل أشد الخجل من هذه العملة البشعة. تبيّن ان للعمال الموسميين مثلنا حقوقا، وكلها مهضومة، من قِبل المسؤولين، عقدتُ اجتماعا للعمال، العشرات، والشهر شهر آذار، والطقس رائع، والنهارات طويلة، وهناك طلبيات مستعجلة من البرتقال للتصدير، وفي محل التصنيف والتعبئة ينتظرون وقررنا الاضراب. البعض تردد، وعارض، فاليوم ملائم جدا للعمل، خاصة من العمال ذوي العائلات والاولاد، جُنّ جنون المسؤولين، وعُقد اجتماع على الواقف تحت الشجر، والمطالب كثيرة: تقليل المقطوعية – النورما – من خمسين صندوقا الى اربعين، دفع بدل ملابس العمل، دفع مقابل الإذن، والاعياد، توفير مياه ساخنة في الحمامات، تقليم الشجر العالي... وإلا فالاضراب مستمر. ولدهشة الكثيرين ورغم محاولات التملص والاستفراد بالبعض والتحريض – لُبيت كل المطالب، وكل ذلك ستأخذونه مع أجرة هذا الشهر، كان المبلغ محترما يفيض له الريق، خالي يوسف قال: ما أهم هذا اللي بتسَموه اضراب!! حاولوا طردي من العمل وطرد محمد آخر لسبب آخر، رفض العمال وهددوا بالإضراب، نقلنا هذا النجاح الى عمال بلدنا في جان افرايم، وتل موند، وحَنيئيل، وكفار مونَش. المسؤول أوري ابن حلال الى حد ما، أما حيّون الليبي وموشي السوري فيحرضون عليه لأخذ محله. ذهبنا ثلاثة في الليل الى محل تصنيف البرتقال وتعبئته للتصدير، وكلّه من نوع شمّوطي تفوح منه رائحة عطرة، وكنت قد حضّرت قصاصات ورق مكتوبا عليها باللغة الانجليزية: أيها المستعمرون الامريكان اخرجوا من الفيتنام، أدخلناها في الصناديق، بعدها جاء أوري وقال لي: هذا خطر كبير، أنت تزوّدها، تسبب لنا ورطة، أسكتْ او أترك العمل الى مكان آخر. هناك بدأت أسمع كيف صادروا وادي الحوارث، بدأوا بدعوة بعض الملاكين، الى أقبية تحت الارض، فيها الكاس والطّاس، فيها الصبايا الملاح، مُسكرات ومكسّرات وبسمات ومداعبات ثم بصمات على اوراق تمدها الصبية الحلوة في احلى اللحظات، وغالبا لا ينفع ذلك، فهناك الانجليز، هناك فرض الضرائب، وتحريض الفقراء على الملاكين، وهناك اقامة اللجان والجرجرة الى المحاكم والمصروفات فالانجليز مثل البرد اساس كل علّة. بين الحلقة السابقة وهذه من المسلسل، تقدّم إلي صديق من بلدي ضاحكا، بيننا مزح ووحدة حال وقال: إلَك معي سلام. - إذا من واحدة من مستشفى صفد هات... - من واحد اسمه بَدين - إدوار بدين. - أيوه إدوار بدين، التقينا في المغرب، يعيش في سويسرا، يعمل طبيبا. أذكر الصديق محمد من فلسطين، هل يوصل السلام، هل تعرفه، هو صديقي.. سلامي الى الصديق العزيز إدوار بدين، لم نلتق منذ اكثر من نصف قرن. وسنلتقي.
السبت 26/1/2019 |