هذا ما يحدث عندما تُهضم حقوق العمال في غياب التنظيمات النقابية:
عامل بريطاني يدمر فندقًا ساهم في بنائه احتجاجًا على عدم دفع مستحقاته
إلياس نصرالله
ضربات للنقابات جاء هذا الحادث في الوقت الذي تشهد فيه بريطانيا معركة من أجل الحفاظ على ما تبقى من حقوق العمال والحياة النقابية فيها، بعد أن نجح حزب المحافظين البريطاني منذ أواسط عقد الثمانينيات الماضي بتجريد النقابات من الكثير من حقوقها ومكتسبات تاريخية كانت الطبقة العاملة البريطانية والحركة النقابية المنبثقة عنها حققتها على مدى عقود طويلة. فحزب المحافظين الذي حكم بريطانيا من عام 1979 حتى 1997، بقيادة مارغريت تاتشر وجون ميجور، تمكن من توجيه ضربات قوية إلى الحركة النقابية وانتزاع حقها في الدفاع عن العمال وتهميش دورها في الحياة العامة
اخترق عامل بناء بريطاني بعد ظهر يوم الأثنين الماضي في مدينة ليفربول جدار الصمت المضروب حول هضم الحقوق النقابية بجرافة من الحجم المتوسط، وزنها 2,5 طن، واقتحم بها مبنى جديدًا لفندق على وشك الانتهاء من بنائه وينتظر افتتاحه في شهر شباط المقبل، فهشّم الواجهة الزجاجية الجميلة للفندق ودمّر الطابق الأرضي فيه محدثًا أضرارًا مالية تقدر بمئات آلاف الجنيهات الاسترلينية، وذلك احتجاجًا على رفض شركة المقاولات التي كان يعمل فيها وتتولى عملية بناء الفندق، دفع 600 جنيه استرليني من مستحقاته. وعرضت قنوات التلفزة البريطانية أشرطة تصوّر العملية برمتها التقطها زملاء العامل الذين كانوا في المكان. ولفت الانتباه أن عددًا من العمال أيدوا زميلهم وهللوا له أثناء عملية التدمير، وغصت مواقع الصحف الرئيسة وغيرها بتعليقات مؤيدة للعامل وما قام به، فيما أطلق آخرون حملة جمع تبرعات من أجل تمويل حملة دفاع قانونية عن العامل الذي فرّ من مكان الحادث وكانت الشرطة ما زالت تبحث عنه حتى كتابة هذه السطور. لأول وهلة يبدو الخبر عاديًا. فمجالات العمل في مختلف الفروع تشهد حوادث كثيرة يقوم فيها عامل بعمل انتقامي لهذا السبب أو ذاك ضد أصحاب العمل وإدارته. وفي معظم الأحيان تتم هذه الأعمال الانتقامية سرًا ولا يجاهر أصحابها بها. لكن هذه المرّة كان الحادث مختلفًا، فالعامل المحتج فعل ذلك في وضح النهار وعلى مرآى ومسمع زملائه الآخرين الذين صوروا العملية ووزعوا أشرطتها بشكل واسع. فمن المفروض أنه في حال وقوع نزاع عمل بين العمال وأصحاب العمل تتدخل النقابة المعنية وتدافع عن العمال وتتفاوض مع إدارة العمل من أجل فض النزاع. لكن تبين أنه لا وجود لنقابة عمال يمكنها الدفاع عن العامل المغبونة حقوقه في مدينة ليفربول. جاء هذا الحادث في الوقت الذي تشهد فيه بريطانيا معركة من أجل الحفاظ على ما تبقى من حقوق العمال والحياة النقابية فيها، بعد أن نجح حزب المحافظين البريطاني منذ أواسط عقد الثمانينيات الماضي بتجريد النقابات من الكثير من حقوقها ومكتسبات تاريخية كانت الطبقة العاملة البريطانية والحركة النقابية المنبثقة عنها حققتها على مدى عقود طويلة. فحزب المحافظين الذي حكم بريطانيا من عام 1979 حتى 1997، بقيادة مارغريت تاتشر وجون ميجور، تمكن من توجيه ضربات قوية إلى الحركة النقابية وانتزاع حقها في الدفاع عن العمال وتهميش دورها في الحياة العامة، وألغي القانون الذي كان يُلزم كل عامل بالانضمام إلى النقابة الخاصة بمهنته وانسحب مئات آلاف العمال من نقاباتهم المهنية، حيث أصبح العمال تحت رحمة أصحاب العمل من دون أن يجدوا من يحميهم. جرى ذلك في الوقت الذي انهار فيه الاتحاد السوفييتي ودول الكتلة الاشتراكية، لتجد أنظمة الحكم الرأسمالية الفرصة سانحة للانقضاض على مكتسبات العمال في البلدان الرأسمالية. وخاب ظن الطبقة العاملة البريطانية في حزب العمال البريطاني الذي نجح بقيادة توني بلير وغوردون براون في استلام الحكم لاثنتي عشر سنة متواصلة، إذ لم يتمكن هذا الحزب من، أو لم يكن راغبًا في إصلاح ما خربه المحافظون، بل تبنى حزب العمال هذا التخريب وعززه، ممهدًا الطريق لعودة المحافظين إلى كرسي الحكم عام 2010 وما يزالون في الحكم بقيادة رئيسة الوزراء الحالية تيريزا ماي. فالعامل الذي قاد الجرافة في ليفربول ضد الفندق لنيل استحقاقاته المالية قدّم مثالًا خطيرًا للطبقة العاملة البريطانية وعلى مستوى العالم. فانعدام الحماية النقابية للعمال يدفعهم إلى انتزاع حقوقهم بالقوة، كل بطريقته الخاصة، الأمر الذي يخلق نوعًا من الفوضى وتكون نتائجه وخيمة على الطبقة العاملة إجمالًا. وشكلت انتفاضة الشرائح الفقيرة في بريطانيا في صيف عام 2011 دليلًا واضحًا على نتيجة الاعتداءات الرأسمالية على لقمة عيش الفقراء ومكتسبات الطبقة العاملة. فالوضع الاقتصادي في بريطانيا ما زال مأزومًا منذ عام 2008 وهناك احتمال لتكرار موجات الهبات الشعبية الشبيهة. فالمسألة لا تخص بريطانيا وحدها، فحادثة ليفربول جاءت في الوقت الذي تشهد فيه فرنسا منذ حوالى شهرين حركة احتجاج على الوضع الاقتصادي والنظام الضريبي عرفت باسم "السترات الصفراء"، التي رغم اتساعها نسبيًا أدخلت فرنسا في حالة من الفوضى تم خلالها حرق السيارات وتحطيم واجهات المتاجر والاعتداء على الممتلكات الخاصة والعامة. فـ"السترات الصفراء" ليست حركة نقابية، بل فضفاضة تنظيميًا، وتضم فئات مختلفة من المجتمع الفرنسي من دون قيادة محددة. وهي الأخرى وليدة الهجمة الرأسمالية على المكتسبات التاريخية للطبقة العاملة الفرنسية وحركتها النقابية. ولوحظ أن حركة الاحتجاج هذه لم تقتصر على فرنسا، بل اتسعت إلى بلدان أخرى مثل بلجيكا وبريطانيا وبلغاريا وتونس وتايلاند وغيرها. فالحكومات في الدول الرأسمالية التي ظنت أنها بضرب الحركات النقابية ستنجح في تفتيت الطبقة العاملة لديها وإضعاف قوتها، بدأت تكتشف أنه لا مفر، فالعمال لن يتنازلوا عن حقوقهم، وفي حالة انعدام التنظيم النقابي القوي الذي يمكنه الدفاع عن العمال وصيانة حقوقهم، سيلجأ العمال لتحصيل حقوقهم كل بطريقته، مثلما فعل عامل ليفربول ومثلما يفعل أفراد حركة "السترات الصفراء".